يُعدّ كتاب جان بودريار "المجتمع الاستهلاكي: أسطورته وبُناه" (1970) أحد النصوص المؤسسة في تفكيك المنطق الاجتماعي والثقافي للرأسمالية المتأخرة. فبدل النظر إلى الاستهلاك كفعل اقتصادي يخضع لحاجات طبيعية أو لعقلانية نفعية، يقترح بودريار مقاربة سوسيولوجية- سيميولوجية ترى في الاستهلاك نظامًا من العلامات، تتحدد قيمته الأساسية بقدرته على إنتاج الفروق والتراتبيات الرمزية بين الأفراد والطبقات. هذا التحويل من "حاجات" إلى "دلالات" هو مفتاح الكتاب ومنه تتفرّع أطروحاته جميعًا.
ينطلق بودريار من نقد
التصور الكلاسيكي الذي يميّز بين "قيمة الاستعمال" و"قيمة التبادل".
فالأشياء في المجتمع الاستهلاكي لا تُستهلك لأنها مفيدة فحسب، ولا تُشترى لأنها قابلة
للتبادل بسعر محدّد فقط؛ إنها تُستهلك أولًا بوصفها علامات. هنا تظهر "قيمة العلامة"
التي تتجاوز نفع الشيء وسعره لتستدخل شبكةً أوسع من المعاني: المكانة، الذوق، الانتماء،
والطموح. الساعة، السيارة، الهاتف، الأزياء، وحتى أنماط الترفيه، كلها تدخل في
"قانون الفرق" الذي ينظم الحقول الرمزية للتمايز الاجتماعي. بهذا المعنى،
الاستهلاك ليس تلبيةً لحاجة، وإنما مشاركة في لغة اجتماعية معقّدة، يتكلمها الأفراد
عبر مقتنياتهم وأسلوب عيشهم.
تقوم قوة الكتاب أيضًا
على ربطه بين هذا "النحو" الاستهلاكي وبين جهاز ثقافي وإعلامي يصنع الرغبات
ويعيد تدويرها بلا توقف. الإعلان، بحسب بودريار، ليس مجرد وسيط للترويج، بل هو جهاز
استطيقي-أيديولوجي يحوّل العالم إلى معرض لصور مرغوبة، ويُنتج أسطورة الوفرة والاختيار
الحر. غير أن ما يقدَّم كحرية تفضيل ليس سوى حرية مُمأسسة داخل كتالوغ خيارات مُسبق
التحديد، بحيث يغدو الفرد "مستهلكًا نموذجيًا" لا يختار إلا داخل شيفرة اجتماعية
تتحكم في ذائقته وتوقعاته. من هنا نقده لفكرة "الديمقراطية عبر السوق": فالوفرة
الشكلية تحجب علاقات سلطة أكثر عمقًا، حيث يُعاد إنتاج التفاوت عبر أنماط العيش لا
عبر الأجور فقط.
ويُسعف بودريار قارئه
بتمارين تحليلية دقيقة على التفاصيل اليومية: الأثاث، تصميم الداخل، الهدايا، الأعياد،
أنماط العطل، الولع بـ"الموضة"، وحتى العلاقة بالجسد والوقت. كل ذلك يدلّ،
في نظره، على انتقال المجتمع من إنتاج الأشياء إلى إنتاج العلاقات الرمزية بها. مفاهيم
مثل "الزوال المُبرمج" (planned obsolescence) والائتمان الاستهلاكي تدخل هنا بوصفها آليات
تجعل الدورة الرمزية للرغبة لا تنتهي: تتقادم الأشياء معنويًا قبل أن تتقادم ماديًا،
ويُستبق الغد بدَين اليوم، فتستمر عجلة العلامات في الدوران.
من الناحية المنهجية،
يقف الكتاب على تقاطع البنيوية السيميائية (استعانته بميراث سوسير وبارث) مع السوسيولوجيا
النقدية (تجاوبه الصريح مع فيبلن وبدرجة ما مع بورديو لاحقًا). غير أن بودريار لا يستنسخ
مقولات "الذوق" و"التمييز" كما بلورها بورديو، بل يذهب أبعد: الأشياء
ليست أدوات لإظهار الرأسمال الثقافي فحسب، بل هي عناصر في "نسق علامات" مستقل
نسبيًا، له منطقه الداخلي الذي قد ينفصل عن المصالح الطبقية المباشرة. هذه الجرأة النظرية
تمنح الكتاب حداثته، لكنها تُدخل عليه أيضًا نزعة كُلّانية تثير التحفظ: فحين تتحول
كل وقائع الحياة اليومية إلى "شيفرات"، قد يتضاءل مجال الفعل الإنساني والمقاومة
الفردية.
في تقييم القوة التفسيرية
لهذه الأطروحات اليوم، تبدو نبوءة بودريار مُدهشة. فاقتصاد المنصات، و"تأثير المؤثرين"،
وتسليع الانتباه، كلها أمثلة تؤكد مركزية "قيمة العلامة". صار الهاتف لا
يدلّ على الوظائف التقنية بقدر ما يدلّ على عضوية في أسلوب حياة؛ وصارت الصور الذاتية
والعمل على "الهوية الرقمية" شكلاً من أشكال الإنتاج الرمزي الذي يُستهلك
ويُقاس بالمشاهدات والتفاعلات. بل إننا أمام طبقة جديدة من السلع الدلالية الخالصة
(الرموز غير القابلة للاستبدال، شارات التحقق، مراتب "الخاصة")، ما يجعل
مقولة "الوفرة المصنوعة" و"الاختيار المؤدلج" أكثر راهنية من أي
وقت مضى.
ومع ذلك، يمكن تسجيل
ثلاث ملاحظات نقدية. الأولى: ميل الكتاب إلى تعميم علاقة العلامة قد يُهمل اختلاف الحقول
الاجتماعية وتفاوت قدرتها على ترميز الأشياء. فالمعنى لا يُفرَض دومًا من أعلى عبر
الإشهار، بل يتعرض لإعادة تأويل محلية ومقاومات ثقافية متباينة. الثانية: ضعف الاشتغال
الإمبيريقي؛ فالقوة الحدسية واللمعان السيميائي يُعوّضان أحيانًا عن دراسة ميدانية
مُحكمة. الثالثة: النزوع إلى التشاؤم الشامل الذي سيبلغ ذروته لاحقًا في نقد
"المحاكاة" و"الفرط-واقع"؛ وهو تشاؤم قد يُعتم على إمكانيات الإبداع
اليومي داخل أنساق الاستهلاك نفسها، كما كشفت بعض دراسات الثقافة المادية المعاصرة.
مع ذلك، يبقى
"المجتمع الاستهلاكي" نصًا تأسيسيًا يصعب تجاوزه لأي قارئ مهتم بسوسيولوجيا
الحياة اليومية وبنقد الأيديولوجيا المعاصرة. لغته التحليلية مشغولة بعناية، وملاحظاته
على تفاصيل العيش الحديث لا تزال نافذة: من اقتصاد الهدايا إلى ديناميات الحسد الاجتماعي،
من هيمنة الصور إلى تصنيع الحاجات، ومن تسويق "السعادة" إلى تحويلها إلى
معيار أخلاقي للمواطنة الصالحة. والكتاب، إلى جانب "نسق الأشياء"، يشكّل
المتن الذي أطلق لاحقًا نقد بودريار الجذري للتمثيل والوسائط، وإن كان هنا أكثر التصاقًا
بمواد الواقع من أعماله المتأخرة.
خلاصة القول: يقدّم
بودريار تصورًا يقلب مركز الثقل من الاقتصاد السياسي للسلعة إلى الاقتصاد الرمزي للعلامة.
وفي زمن تُقاس فيه الذات بحضورها على المنصات ويُختزل فيه العالم إلى تدفقات من الصور،
يبدو أن سؤاله القديم ما زال يتحدى حاضرنا: ماذا نستهلك حقًا حين نستهلك؟ أشياء وظيفية
أم فروقًا رمزية تُعيد رسم خرائط القوة والرغبة؟ بين بريق حدسه ومبالغات تعميمه تتولد
القيمة الدائمة لهذا الكتاب: دعوة إلى النظر في ما وراء "حاجاتنا"، إلى حيث
تُكتب حياتنا بلغة الأشياء التي تختارنا بقدر ما نختارها.
0 التعليقات:
إرسال تعليق