أكتب هذه الكلمات وأنا أمام لحظة حاسمة في تاريخ الأدب والفكر. لم يعد السؤال يدور حول "هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يكتب؟"، بل أصبح "ما معنى أن نكتب في زمن تذوب فيه الحدود بين الإنسان والآلة؟". إنني أرى اليوم أن فعل الكتابة نفسه، الذي ظل لقرون فعلاً بشرياً صرفاً، قد تحول إلى فضاء تتجاور فيه إرادة المؤلف مع خوارزميات لا تعرف النوم، كما لو أننا بصدد تجربة شكل جديد من المؤلف "ما بعد الإنساني".
حين أقرأ كتاب ن. كاثرين
هايلز" كيف أصبحنا ما بعد البشر
How
We Became Posthuman (1999) أتلمس تلك اللحظة التي تحدثت فيها عن تداخل الكائن العضوي مع نظام المعلومات،
وكيف لم يعد الجسد وحده هو حامل الوعي. وما كان تنظيراً فلسفياً قبل ربع قرن صار اليوم
ملموساً في نصوص تتشارك كتابتها الأيدي البشرية مع تقنيات الذكاء الاصطناعي.
من منظور السيبرنيطيقا،
أستحضر نوربرت وينر وكتابه Cybernetics (1948)، حيث المعلومات والتغذية الراجعة هي جوهر كل
نظام. والأدب، في جوهره، ليس سوى شبكة إشارات تبحث عن قارئ. هنا يغدو منطق فوكو في
مقاله "ما المؤلف؟" أكثر وضوحاً: النص يولد من شبكة، لا من فرد.
لكن هذه الجدلية ليست
حكراً على الغرب. فالمشهد العربي الرقمي يشهد بدوره تحولات مشابهة. في لبنان، نجد تجارب
رائدة مثل قصائد رمزي نجا أو أعمال الباحثة والشاعرة رشا العيسى، التي جمعت بين النص
والصورة والبرمجة في بنية نصية مفتوحة للقارئ. هذه التجارب لم تعتمد الذكاء الاصطناعي
بشكل مباشر، لكنها أسست لمخيلة أدبية تتجاوز الورق، وتضع القارئ في قلب النص كفاعل
لا كمستقبل سلبي.
أجد نفسي هنا أمام سؤال جوهري: هل الأدب العربي الرقمي كان خطوة تمهيدية نحو استقبال الذكاء الاصطناعي في المشهد الأدبي؟ يبدو الأمر كذلك، إذ إن هذه النصوص كسرت منذ البداية وهم المؤلف الفردي وفتحت النص أمام "الآخر" – سواء كان هذا الآخر قارئاً، شاشةً، أو خوارزمية. ومن اللافت أن بعض الدراسات الأكاديمية العربية، مثل أبحاث محمد سيف الإسلام بوفلاقة حول الأدب الرقمي، أكدت أن النص التفاعلي العربي يعيد تعريف الكتابة بوصفها حواراً مع الآلة، لا مجرد بث من ذات مبدعة.
هذا التوازي بين التجربة
العربية والعالمية يعكس أن مسألة المؤلف ما بعد الإنساني ليست "غربية" الطابع
فحسب، بل ظاهرة كونية يجد الأدب العربي نفسه جزءاً منها. فكما حوّلت الطباعة في أوروبا
شكل التأليف، حوّل الرقمي في العالم العربي أفق القراءة، واليوم يطرق الذكاء الاصطناعي
باب المؤلف ليعيد صياغة مفهوم الكتابة ذاتها.
ما أراه اليوم هو أن
النصوص المنتَجة آلياً ليست سوى حلقة جديدة في سلسلة بدأت منذ أول نص تشعبي عربي، وتمر
اليوم عبر مختبرات الذكاء الاصطناعي التي تهدد وتغري في آن واحد. وكأن الكاتب العربي،
مثل زميله الغربي، مدعو لإعادة تعريف ذاته: هل هو فرد يكتب ضد آلة، أم شريك في نص يتجاوزهما
معاً؟
هنا تتكشف صورة مثيرة:
الأدب العربي الرقمي لم يكن مجرد "محاكاة متأخرة" للتجارب الغربية، بل كان
تأسيساً مبكراً لفكرة أن النص ليس ملكاً لفرد. وهذا بالضبط ما يجعل التحول إلى المؤلف
ما بعد الإنساني أكثر سلاسة في السياق العربي مما قد نتخيله.
0 التعليقات:
إرسال تعليق