الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 07، 2025

السرد التفاعلي جسر نحو أفق جديد للحكاية: عبده حقي


لم يعد السرد الأدبي، في زمن التحولات الرقمية، محصورًا في النص الورقي أو في الخطية الزمنية التي عرفتها الرواية الكلاسيكية. لقد فتح السرد التفاعلي بابًا واسعًا أمام تجربة جديدة، تجعل المتلقي مشاركًا فاعلًا في صياغة الحكاية، وفي رسم مساراتها الممكنة. إنّه انتقال من سلطة المؤلف المطلقة إلى مساحة تفاوض بين النص والمتلقي، حيث يتقاطع الأدب مع تقنيات الوسائط المتعددة، ويتحوّل النص إلى فضاء مفتوح على الصور، الروابط، الفيديوهات، والمؤثرات الرقمية.

الحكاية في صورتها الكلاسيكية كانت تتحرك في خط مستقيم: بداية، حبكة، ذروة، ونهاية. أمّا في السرد التفاعلي، فإن النص يتحرر من هذه البنية ليصبح شبكة مفتوحة، أقرب إلى متاهة أو خريطة، يمكن للقارئ أن يتنقّل داخلها عبر روابط متشابكة. هذا التحول يذكرنا بأفكار جورج لويس بورخيس في نصوصه المتاهية، أو بأطروحات جوليا كريستيفا حول التناصّ، لكن هنا التناص لا يكون عبر النصوص فقط، بل عبر الوسائط المختلفة التي يعيد القارئ تركيبها كلّ مرّة.

في هذا النمط من السرد، يصبح القارئ شريكًا في العملية الإبداعية. فاختياره لمسار معيّن داخل النص يعادل كتابة ثانية، حيث تتعدد النهايات والاحتمالات، وتتحول كل قراءة إلى تجربة فريدة. وهكذا يتأسس مفهوم جديد للأدب يقوم على الانفتاح والتعدد، بدلًا من الثبات والحتمية. هذه الفكرة ليست بعيدة عن تنظيرات أمبرتو إيكو في كتابه الأثر المفتوح، غير أنّ الوسيط الرقمي أعطاها طاقة إضافية، تجعلها ممارسة حيّة لا مجرد افتراض نظري.

لا يمكن الحديث عن السرد التفاعلي من دون الإشارة إلى البعد التكنولوجي الذي يمنحه أدواته. فالوسائط الرقمية هي التي تسمح بدمج النص مع الصوت والصورة والحركة. هذه العناصر تخلق خطابًا هجينيًا يذكّرنا بمفهوم "النص التقني" عند كاثرين هايلز، حيث يصبح النص نفسه كيانًا تقنيًا يتجاوز الأدب التقليدي، ليولد ما يمكن تسميته بـ الأدب الإلكتروني.

السرد التفاعلي إذن ليس مجرد تقنية، بل هو رؤية جديدة للأدب. إنّه يضعنا أمام سؤال جوهري: هل ما زال بالإمكان الحديث عن مؤلف واحد ونص واحد؟ أم أننا صرنا أمام تعدد كتاب وتعدد نصوص داخل فضاء رقمي مفتوح؟ بهذا المعنى، يتحول الأدب إلى تجربة جمالية تشاركية، حيث يلتقي الخيال بالذكاء الاصطناعي، والكتابة بالبرمجة، والقارئ بالمؤلف، في أفق لا يزال قيد التشكل، لكنه يعد بتغيير جذري في علاقة الإنسان بالحكاية.

0 التعليقات: