الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 07، 2025

المغرب في مرآة عصره الحديث : (22) : تأسيس اتحاد المغرب العربي ملف من إعداد عبده حقي


شكّل توقيع معاهدة مراكش يوم 17 فبراير 1989 لحظة انعطاف في تاريخ المغرب الكبير؛ إذ انتقل حلم الوحدة من لغة البيانات إلى مؤسسة إقليمية تحمل اسماً وهيكلاً وأجهزة دائمة. لم يكن الأمر مجرد رد فعل على مزاج وحدوي عابر، بل خلاصةً لمسارٍ طويل من النقاشات التي تدرّجت منذ استقلال تونس والمغرب، وبلغت أولى صيغها المؤسِّسة في بيان زرالدة (الجزائر، يونيو 1988) الذي وضع جدولاً عملياً لتوليد اتحادٍ يُوازن بين منطق الدولة الوطنية ومنطق السوق الإقليمي. المعاهدة ربطت بين ثلاثة أبعاد: الأمن والاستقرار، التكامل الاقتصادي، والتقارب السياسي—باعتبارها مدخلاً إلى اندماج أوسع مع إفريقيا والفضاء الأورو-متوسطي.

لم يأتِ الاتحاد من فراغ؛ فالتقارب المغاربي سبقته محطاتٌ من التنسيق الثنائي والثلاثي، غير أنّ مراكش منحته الشرعية القانونية والمؤسسية: مجلس رئاسة، مجلس وزراء الخارجية، لجان وزارية متخصصة، أمانة عامة، هيئة استشارية، وجهاز قضائي للفصل في النزاعات المرتبطة بتطبيق المعاهدة والاتفاقات. بهذا التصميم، رغب الآباء المؤسسون في تجنّب ازدواجية القرار، وإسناد التعاون إلى أجهزة تُمكّن من الاستمرارية بعيداً عن تغيّرات الأجندات الداخلية لكل بلد. كان الرهان واضحاً: تحويل الروابط التاريخية والثقافية واللغوية إلى مكاسب تنموية ملموسة عبر تحرير التجارة، تنسيق السياسات القطاعية، وتسهيل حركة الأشخاص والسلع ورؤوس الأموال.

توزّعت مؤسسات الاتحاد بما يُظهر إرادةً في تقاسم “رمزية المقرّ” على عواصم المنطقة: الأمانة العامة تتخذ من الرباط مقراً لها بما ينسجم مع دورها التنفيذي والتنسيقي، المجلس الاستشاري يتخذ من الجزائر مقراً لاجتماعاته بما يؤكد وظيفة التشاور التمثيلي، فيما استقرّت الهيئة القضائية في نواكشوط لتكريس مرجعية قانونية مشتركة قادرة على فضّ النزاعات التأويلية والتطبيقية لمعاهدة الاتحاد. هذا التوزيع لم يكن إجراءً إدارياً محضاً، بل رسالة سياسية تقول إن الوحدة لا تُختزل في مركزٍ واحدٍ بل تتوزّع على عواصم السيادة بما يحفظ التوازنات الداخلية ويُطمئن الحساسية الوطنية في كل بلد. وفي المستوى الاقتصادي، تجسّد الطموح في إنشاء البنك المغاربي للاستثمار والتجارة الخارجية (BMICE) أداةً تمويلية لترجمة مشاريع التكامل إلى واقع استثماري.

أظهرت دراسات المؤسسات المالية الدولية أنّ قيام سوق مغاربية متكاملة كان من شأنه أن يخلق كتلةً سكانية واقتصادية وازنة بقدرة تفاوضية أعلى مع الشركاء الدوليين، وأن يُضاعف التجارة البينية، ويُسرّع تنويع القاعدة الإنتاجية وتقليص هشاشة الاقتصادات المرتبطة خارجياً. بعبارة مباشرة: الاتحاد لم يكن شعاراً هوياتياً، بل أداة براغماتية للنمو. غير أنّ الأرقام اللاحقة كشفت مفارقة لافتة: بقيت التجارة البينية المغاربية متواضعة جداً مقارنة بالتجمعات الإقليمية الأخرى في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا، ما يعني أن “تكلفة اللّا-مَغْرَب” صارت عبئاً هيكلياً على النمو وفرص الشغل وسلاسل القيمة.

توقّف الزخم المؤسسي سريعاً. تعقيدات ملف الصحراء وارتفاع منسوب التوتّر المغربي-الجزائري، ثم إغلاق الحدود البرية سنة 1994، أدّت إلى تجميد آليات الاتحاد وشلّ اجتماعاته على المستوى الرفيع. تحوّلت المؤسسات—الأمانة العامة، المجلس الاستشاري، الهيئة القضائية—إلى أطر قائمة بالاسم أكثر منها منصاتٍ منتجة للقرارات. وهكذا انتصر ميزان القوى الوطني على منطق الجدوى الإقليمية، وغابت الحوكمة التوافقية التي كان يُفترض أن تُحصّن الاتحاد من تقلبات الملفات السيادية الحساسة. في المقابل، حاولت مبادرات قطاعية—مالية ولوجستية—العمل في الهامش، لكن من دون ظهرٍ سياسي موحّد تصبح البنوك الإقليمية وممرات العبور مجرّد أدوات منزوعة المخاطرة.

تُظهر المقارنات الإقليمية أن نسب التجارة البينية في التكتلات الأخرى أعلى بأضعاف، فيما ظلت النسبة المغاربية دون عتبةٍ رمزية لثلاثة عقود. لا يتعلق الأمر برقمٍ جاف، بل بشبكة آثارٍ متراكبة: محدودية الاندماج الصناعي، ضعف سلاسل الإمداد المشتركة، تكرار الهياكل الإنتاجية بدل تكاملها، وفقدان القدرة على التفاوض الجماعي في ملفات الطاقة والانتقال الأخضر والملفات الزراعية والحمائية في الأسواق الكبرى. النتيجة: كل بلدٍ يتفاوض منفرداً في بيئةٍ دولية لا ترحم الوحدات الصغيرة.

بالنسبة إلى المغرب، كان تأسيس الاتحاد جزءاً من استراتيجية متوسِّطة المدى: توسيع عمقه الإفريقي-المغاربي، وتعزيز موقعه في الشراكات الأورو-متوسطية، وتحصين قضيته الوطنية عبر بيئةٍ إقليمية تُرجّح الحلول الواقعية والتكامل الاقتصادي على منطق الانقسام. فالمغرب بنى على منجزات البنية التحتية واللوجستيات والطاقات المتجددة، وتعامل مع الاتحاد باعتباره مسرَّعاً لربط أسواق غرب إفريقيا وأوروبا عبر ممرّاتٍ وسلاسل إمداد مشتركة. لكن استمرار التوتّر السياسي الإقليمي منع تحويل هذه الرؤى إلى سياسات مغاربية منسَّقة.

لماذا تعثّر المشروع… وماذا يبقى منه؟

التعثّر لم يكن قدراً جغرافياً، بل حصيلة ثلاثة عناصر متداخلة:

غياب آلية تحكيم سياسي فوق-وطنية قادرة على إدارة الخلافات السيادية الحادّة، وربطها بتقويماتٍ زمنية وتنازلاتٍ متبادلة؛

ضعف المؤسسية التنفيذية مقارنةً بطموحات المعاهدة، ما جعل القرارات رهينة المزاج السياسي؛

غياب أجندة اقتصادية مُلزمة ترتّب أولويات واضحة (تعريفات جمركية موحّدة تدريجياً، ربط لوجستي ومعايير مشتركة، تحرير مدروس لحركة السلع والخدمات، مشاريع طاقة وماء مشتركة…).

ومع ذلك، لا تزال المعاهدة إطاراً قانونياً صالحاً لإعادة التشغيل متى نضجت الظروف؛ فالمؤسسات موجودة اسماً ومقراً، ونواة تمويلٍ إقليمي باتت قائمة في شكل البنك المغاربي، كما أن الرهانات العالمية—الطاقة النظيفة، الهيدروجين الأخضر، الأمن الغذائي، التحول الرقمي—تدفع نحو تجميع القدرات لا تبديدها.

خلاصة تحليلية

سنة 1989 دشّنت لحظة تأسيسٍ صلبة من حيث النصوص والهندسة المؤسسية، لكنها لم تُترجم إلى تراكم سياسي واقتصادي بحجم الآمال. الدرس المركزي أن التكامل الاقتصادي لا يزدهر في ظلّ فراغٍ سياسي، وأن المؤسسات تحتاج إلى آليات تحكيم وقرارات قابلة للقياس والتنفيذ. بالنسبة إلى المغرب، يبقى الاتحاد ورشةً استراتيجية مؤجّلة: فكلّ ما راكمه من بنى تحتية وسياسات انفتاح واندماج إفريقي يمكن أن يتحوّل إلى قيمةٍ مضاعفة في إطارٍ مغاربي فعّال. إعادة تشغيل المعاهدة لن تكون فعلاً بروتوكولياً؛ إنها اختيار تنموي يحدّد موقع المنطقة في التنافس الدولي لعقودٍ قادمة.

يتبع


0 التعليقات: