الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، سبتمبر 08، 2025

المغرب في مرآة عصره الحديث : (23) : بدايات الانفراج الحقوقي وتمهيد طريق «التناوب» ملف من إعداد عبده حقي


يمثّل عام 1990 في التاريخ السياسي المغربي نقطة انعطافٍ كبرى، حيث تقاطعت ثلاث ديناميات أساسية: احتدام الحراك الاجتماعي والسياسي الذي غذّى قوة المعارضة اليسارية، انطلاق ورشةٍ مؤسساتية جديدة في مجال حقوق الإنسان، وظهور ملف تازمامارت إلى العلن بما أحدثه من صدمةٍ أخلاقية وضغطٍ داخلي ودولي عجّل بانفراجٍ تدريجي انتهى إلى عفو عام وعودة معارضين من المنفى في منتصف التسعينيات. ومع أن بعض الخطوات العملية وقعت لاحقًا في 1991 و1994، فإنّ 1990 كان سنة التأسيس السياسي والحقوقي لذلك المسار.

على خلفية الغلاء وتداعيات التحولات الدولية وأصداء حرب الخليج، شهدت مدنٌ مغربية موجات احتجاج وإضرابات عامة في أواخر 1990. بلغت هذه الموجات ذروتها في الدار البيضاء وفاس وطنجة، وتخللتها مواجهات وسقط ضحايا واعتقالات واسعة. وقد كشفت هذه الأحداث عن اتساع قاعدة المعارضة ولا سيما الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ورسّخت حضور النقابات والطلّاب في الفضاء العمومي. وفي الجامعات، استعاد الاتحاد الوطني لطلبة المغرب—رغم الحظر القانوني—حضوره الرمزي والتنظيمي عبر شبكات اليسار الطلابي التي غذّت التعبئة والمطالبة بالحريات.

استشعر النظام السياسي كلفةَ الاحتقان ومخاطرَ استمرار صور الانتهاكات، فأُنشئ في أبريل 1990 المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بصفته أداةً مؤسساتية لتلقي الشكايات وتقديم الرأي والتوصيات. كانت هذه الخطوة إشارة إلى انتقالٍ أولي من المقاربة الأمنية الصِّرفة إلى مقاربةٍ ذات لغة حقوقية، كما مثّلت الإطار الذي أُدير داخله لاحقًا ملف الاعتقالات السياسية والاختفاء القسري.

شكّل نشر كتاب «صديقنا الملك» في 1990 لحظة انفجارٍ لملف تازمامارت. انتقل الحديث عن السجن السري من الشائعات إلى الرأي العام الدولي، ما ولّد ضغوطًا إعلامية وحقوقية مكثفة دفعت إلى إغلاق السجن في 1991 وإطلاق سراح الناجين، في خطوة رمزية كبرى في مسار طيّ صفحة الانتهاكات.

بدأ الإفراج عن دفعات من المعتقلين منذ أواخر الثمانينيات وتواصل في 1991، قبل أن يُعلن الملك في 1994 عفوًا عامًا استفاد منه مئات المعتقلين السياسيين، وتضمّن السماح بعودة قرابة مئتي منفي سياسي. نقل هذا التحول النقاش من سؤال وجود السجون السرية إلى سؤال العدالة الانتقالية وجبر الضرر، ومهّد لعودة وجوه معارضة واستكمال إدماج قوى اليسار في اللعبة المؤسسية.

على الصعيد الحزبي، عزّزت ديناميات الحراك والضغط الحقوقي موقع الاتحاد الاشتراكي تنظيميًا وانتخابيًا. فبعد الدستور المعدَّل عام 1992 وتكوين «الكتلة الديمقراطية»، خاضت المعارضة انتخابات 1993 بنتائج تقدّمٍ نوعي، ما وضع الأحزاب اليسارية في قلب معادلة التفاوض مع القصر حول إصلاحاتٍ دستورية لاحقة، ومهّد في نهاية العقد لتجربة التناوب التوافقي بقيادة عبد الرحمن اليوسفي سنة 1998.

رغم الحظر القانوني الذي طال الاتحاد الوطني لطلبة المغرب منذ 1973، ظلّت الجامعة فضاءً صاخبًا لإعادة بناء الشبكات اليسارية وتداول الأفكار الحقوقية. ظهر ذلك في دور الطلبة في الإضرابات والاحتجاجات، وفي إعادة وصل الجامعة بالحياة العمومية عبر جمعيات ومنتديات وجرائد حائطية وملاحق طلابية. هذه الحيوية شكّلت قاعدة اجتماعية مهمّة دعمت صعود الاتحاد الاشتراكي وأمدّت المعارضة بالشرعية الرمزية.

لم يكن الانفراج وليد انكسارٍ أحادي، بل نتيجة تفاوض غير مُعلن بين الدولة والأحزاب والمجتمع المدني. فبينما أنهت الدولة طور السرّية الفجّة (تازمامارت) وأطلقت عفوًا واسعًا، أبقت في الوقت نفسه على أدوات الضبط وأعادت هندسة اللعبة الانتخابية بما يضمن إدماج المعارضة دون تهديد جوهر الملكية التنفيذية. ومع ذلك، أطلقت هذه الديناميات المدنية والحقوقية مسارًا طويلًا قاد لاحقًا إلى هيئة الإنصاف والمصالحة ومطلب الحقيقة والذاكرة.

عام 1990 ليس تاريخ الإفراج الشامل ولا العودة الجماعية للمنفيين، لكنه كان سنة مفصلية انطلقت فيها ديناميات جديدة: تنامي قوة المعارضة اليسارية، انكشاف انتهاكات الماضي، وبدء الدولة في إدماج خطاب ومؤسسات حقوقية. ما تلا ذلك—من إطلاق سراح الناجين في 1991، والعفو العام وعودة المنفيين في 1994، وصولًا إلى التناوب التوافقي عام 1998—كان ثمرة مسار بدأ عمليًا في 1990 حين تغيّرت شروط اللعبة وتوازنات الفضاء العمومي بين الدولة والمجتمع.

المراجع والمصادر الموثوقة

Human Rights Watch, Human Rights in Morocco (1995).

Human Rights Watch, World Report 1992 – Morocco and Western Sahara.

Amnesty International, Morocco: Tazmamart—Official Silence and Impunity (1992).

Aziz Binebine، شهادة عن تازمامارت.

Gilles Perrault, Notre Ami le Roi (1990).

وثائق المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان (1990).

Inter-Parliamentary Union (IPU)، نتائج انتخابات 1993.

OpenEdition: دراسات حول الاتحاد الاشتراكي في التسعينيات.

تقارير صحفية وحقوقية عن احتجاجات وإضرابات 1990.

Human Rights Watch, Morocco’s Truth Commission (2005).

روابط رقمية

نسخة Notre Ami le Roi على أرشيف الإنترنت

تقرير HRW (1995) نسخة PDF

تقرير Amnesty حول تازمامارت (1992) نسخة PDF

صفحة المجلس الوطني لحقوق الإنسان حول النشأة

قاعدة بيانات IPU لانتخابات 1993

يتبع


0 التعليقات: