الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأربعاء، نوفمبر 19، 2025

أثر الأصابع التي لا تُرى نص سردي عبده حقي

 


لا أعرف لماذا أكتب الآن، ولا كيف تسلّلت إليّ هذه الرغبة التي تشبه يدًا حائرة تبحث عن شيء تسنده. كل ما أعرفه أنني لم أعد قادراً على التمييز بين ما أراه وما يخطر في رأسي، وكأنّ الجدار الذي كان يفرّق بين الاثنين قد ذاب فجأة مثل شمعة تُركت قرب نافذة مفتوحة. الأشياء تتزاحم داخلي، بعضها بلا شكل، بعضها بملامح لم ألمسها في حياتي، ومع ذلك أجد نفسي أتحدث عنها كما لو كانت جيراني الذين يطرقون الباب في ساعة غير مناسبة.

تذكّرت الليلة تلك الجملة الغريبة التي سمعتها منذ سنوات: “العبقرية هي أن تتحدّث عن الأشياء الوهمية كما لو كانت واقعية، وأن تتصرّف معها أيضاً كأنّها كذلك.” لم أكن مقتنعاً بها حينها، وكنت أراها نوعاً من الادعاء الأدبي… لكنني الآن أكتب، وأشعر أنني أمسك بخيوط أشياء لا أعرف من أين جاءت. إنني أتكلم مع كيانات لا أراها حقاً، لكنني أشعر بوجودها يمرّ قرب كتفي كهواء ثقيل يحمل رائحة موسمٍ لم يبدأ.

هناك ممشى ضيق في رأسي، كنت أحاول تجاهله طوال الوقت. اليوم فقط قررت أن أمشي فيه، لا لسبب واضح، بل لأنّ الظل الذي كان في أقدامي دفعني إليه. الجدران في الداخل ليست جدراناً، بل ما يشبه طبقات من ذاكرة قديمة، ذاكرة أشياء لم تُخلق، ومع ذلك تحتفظ بحرارةٍ غريبة حين ألمسها. لم أفهم ذلك فوراً؛ كنت أمدّ يدي فأشعر كما لو أنني ألمس جانباً من قصة شخصٍ لا أعرفه، شخصٍ عاش حياة لم تبدأ بعد.

فجأة ظهرت لي صورٌ كثيرة: رجل يبيع عيوناً زجاجية في صندوق خشبي، امرأة تزرع مفاتيح في تراب قاتم، طفل يرمي عود ثقاب في السماء فيتحوّل إلى نجم صغير يرتجف مثل قلب طائر. هذه الصور جاءت دفعة واحدة، وبلا أي معنى واضح، لكنها وقفت في الممرّ بجانبي كما لو أنها تنتظر منّي شيئاً… كلمة، إشارة، أي شيء يُعيد ترتيبها.

لا أذكر أنني قررت الركض، لكنني ركضت. كأنني كنت أهرب من تراكم الصور، أو منها تحاول اللحاق بي. سمعْتُ أقدامي ترتطم بالأرض، لكن الأرض نفسها كانت تتغيّر تحتها. مرةً تصبح لينة مثل طين ساخن، ومرة قاسية كقطعة معدنية، ثم تتحوّل فجأة إلى طبقة شفافة أرى من خلالها مدينة تتحرّك بلا أي ضوضاء، كأنّها كانت تتنفّس من مكان بعيد.

ثم ظهر ذلك الحيوان… لا أعرف إن كان حيواناً فعلاً. كان شيئاً مركّباً من لحظات زمنية، يتقدّم وكأنّ كل خطوة منه يسقط منها زمن قديم وزمن لم يأتِ. اقترب مني حتى صرت أشعر بأنفاسه التي كانت تشبه هواءً يخرج من ساعةٍ انفتحت للتوّ. سألني بلا صوت، أو ربما أنا تخيّلت السؤال:
“هل تريد حقاً أن ترى ما لم يُخلق بعد؟”

أجبته بطريقة لم أتوقعها:
“أنا لا أريد… لكن هناك جزءاً مني يتحرك قبلي، يجرّني إلى ما لا أعرفه.”

ضحك الكائن، ضحكة تشبه تحطّم زجاج في ماء، وبدأ يتفتت إلى شرارات من الضوء. التصقت بعض الشظايا بثيابي، وما إن لامست جلدي حتى رأيت طفولتي تنقلب مثل ورقةٍ قُلبت بسرعة: نافذتي القديمة، القمر الذي كان يشبه عيناً مترددة، الشجرة التي كنت أتسلّقها وهي تقول لي همساً إن أوراقها ليست أوراقاً بل رسائل لم يكتبها أحد بعد.

حاولت فهم كل هذا، لكن الفهم بدا لي كلمة لا معنى لها. كل ما كنت أشعر به هو أنني بدأت أتحرر من فكرة الواقع نفسه. بدأت أقتنع بأنّ ما نتخيّله يتحرك فعلاً، يتنفس، وربما ينتظر منّا أن نمنحه اعترافاً صغيراً ليظهر. ربما كانت العبقرية مجرد لحظة اعتراف بسيطة: أن نصدّق خيالنا.

ووسط هذا كلّه ظهر ممرّ جديد، جدرانه مكتوبة بجمل غير مكتملة، بعضها يميل كأنّ الكلمات نفسها متعبة. قرأت على أحد الجدران: “من يرى نصف الحقيقة يبقى نصف كائن.” شعرت حينها بشيء يتفكّك داخلي. ربما لأنني كنت طوال عمري أرى نصف الأشياء فقط، وأتجاهل النصف الآخر الذي يختبئ في جانبٍ غامض من عقلي.

ثم وجدت مرآة معلّقة في منتصف الممرّ، كنت خائفاً من النظر فيها، لكني فعلت. لم أرَ وجهي وحده، بل رأيت نسخاً كثيرة مني: طفل يلعب بالطين، شاب يحدّق في السماء، رجل يجلس على طاولة يكتب شيئاً لا يريد أحد أن يقرأه. كل نسخة تشير إليّ بنوع من السخرية، كأنها تقول:
“أنت دائماً تتأخر عن نفسك.”

مددت يدي نحو المرآة، فتحوّلت إلى سطح ماء، ماء بملوحة غريبة، كأنّه جاء من بحر لم يرَ سفينة منذ قرن. شعرت بالموج يرفعني، يحرّكني، يطلب مني أن أترك جسدي لوقتٍ قصير. فعلت. كنت أطفو، وكنتُ في مكانٍ لا أعرف أين يقع، ولا لماذا يبدو حقيقياً أكثر مما عشته في الواقع.

كنت أسمع صوتاً بعيداً، صوتاً بلا صاحب:
“كل شيء تتعامل معه كأنه حقيقي… يصبح حقيقياً.”

حين سمعت العبارة شعرت بشيء يشبه الهدوء. كأنني وصلت إلى نوع من التسليم: أنّ الخيال ليس شيئاً يزورك من حين لآخر، بل هو أرض كاملة كانت تنتظر قدومك. أرض بلا خرائط، بلا اتجاهات، لكنك تعرفها فور أن تطأها. تعرفها لأنّ جزءاً منك وُلِد هناك، وظلّ عالقاً فيها حتى لحظة كهذه.

لم أستيقظ بعدها، أو ربما استيقظت. لا أدري. ما أعرفه فقط أنّ جسدي كان مغطّى ببقع صغيرة تشبه آثار أصابع مخلوقات لم أراها، ومع ذلك شعرت أنها رافقتني طوال الرحلة. فركت تلك العلامات، فبدأت روائح غريبة تخرج منها: رائحة حبر، ورائحة أرض مبلّلة، ورائحة ليل بلا قمر.

قلت لنفسي، وأنا أتنفّس ببطء:
“ربما هذا هو النصف الآخر الذي كنت أبحث عنه. نصفٌ لا يطلب منطقا، ولا يريد أن يعرف كيف يبدأ العالم أو كيف ينتهي… فقط يريد أن يُسمع.”

ثم كتبت هذه الصفحة… لا لأفهم، بل كي لا يضيع ما ظلّ يتبعني كل تلك المسافة.


0 التعليقات: