تعود قضية الكاتب الجزائري بوعلام صنصال إلى واجهة الجدل الإقليمي والدولي في واحدة من أكثر اللحظات حساسية في العلاقات المتشابكة بين الجزائر وفرنسا وألمانيا. فالرجل الذي لطالما شكّل صداعاً للنظام الجزائري بسبب مواقفه الفكرية والسياسية، وجد نفسه من جديد مركزاً لحرب ناعمة تتقاطع فيها الحسابات الدبلوماسية مع صراعات الهوية والشرعية، وصوت المثقف مع جبروت السلطة.
وقد فجّر أمر “تحريره”—وفق روايات متداولة—أو على الأقل تخفيف القيود المفروضة عليه، بناءً على طلبٍ ألماني مباشر، موجةً واسعة من التعليقات على منصّات التواصل، وصلت حدّ استخدام مصطلحات مثل:
“تبون يهين فرنسا”،
“برلين تنتصر”،
“إفلاس أخلاقي للنظام الجزائري”.
لكن بعيداً عن الشعارات الكبيرة وقراءات الإعلام الموجّه، تطرح القضية سؤالاً مركزياً:
هل حقاً وجّه تبون صفعة لفرنسا بإطلاق بوعلام صنصال؟ أم أنّ النظام الجزائري وجد نفسه مكشوفاً أمام أوروبا، مضطراً للامتثال لضغوط لا يستطيع مقاومتها؟
تكشف قراءة معمّقة للوقائع، وتاريخ العلاقة بين الأطراف المعنية، أنّ الإجابة ليست بسيطة، وأنّ القضية تتجاوز حدود “كاتب محرّر” أو “قرار سيادي”، لتلامس جوهر الإشكالية الجزائرية مع ذاتها قبل الآخر.
أولاً: بوعلام صنصال… من روائي متمرّد إلى ورقة سياسية محرجة
يُعدّ بوعلام صنصال واحداً من أبرز الأصوات الأدبية الجزائرية المعاصرة، وأكثرهم إثارة للجدل. ففي أعماله الروائية ومقالاته الصحفية لم يتراجع يوماً عن نقد بنية النظام الجزائري وعقليته الأمنية، بل ذهب أبعد من ذلك حين اتّهم السلطة بتدمير الحياة السياسية، واغتيال روح المجتمع المدني، وتهميش المثقفين، وتحويل الجزائر إلى “دولة شبه مغلقة”.
هذا الموقف الجريء جعل صنصال هدفاً دائماً للتضييق.
فالنظام الجزائري، الذي يصنّف الثقافة إمّا تابعة وإمّا مهدِّدة، يجد صعوبة في التعايش مع مثقف حرّ لا يخضع لمنطق الولاء، ولا يستسلم لإغراءات المناصب أو جوائز الداخل.
وهكذا، تحوّل الكاتب إلى ما يشبه “السجين غير الرسمي”:
ممنوع من الندوات، مراقَب في تحركاته، موضوع حملات تشهير إعلامية كلما احتاجت السلطة إلى “عدوّ ثقافي”.
وبقدر ما ضاق صدر النظام بصنصال، بقدر ما احتضنته دوائر ثقافية أوروبية، خصوصاً في ألمانيا التي يرى فيها الكاتب فضاءً للحرية، ومكاناً آمناً للإبداع والكتابة. ولذلك، فإن أيّ إجراء يطاله يكتسب فوراً بُعداً دولياً.
ثانياً: الرواية الرسمية – “تبون يهين فرنسا”… صناعة نصر وهمي
انتشر خلال الساعات الأخيرة فيديو بعنوان:
«Tebboune a-t-il vraiment humilié la France en libérant Boualem Sansal à la demande de l’Allemagne؟»
ولاقى آلاف المشاهدات في وقت قصير.
في هذا الفيديو ومن على منصّات مشابهة، يحاول المعلّقون المقرّبون من النظام الجزائري تقديم ما حدث باعتباره “انتصاراً دبلوماسياً” يُثبت أنّ الجزائر “لم تعد تخشى فرنسا”، وأنّها اليوم تتعامل فقط مع القوى التي “تحترم سيادتها”، مثل ألمانيا.
هذه الرواية الرسمية تسوّق ثلاث نقاط رئيسية:
-
الجزائر تجاهلت فرنسا وأذعنت فقط لألمانيا.
وكأنّ الاختلاف بين باريس وبرلين يمنح النظام فرصة لتمرير الوهم بأنّه يختار شركاءه بحرية. -
تمّ إطلاق صنصال في إطار احترام السيادة الجزائرية وليس استجابة لضغط.
لكنّ كل المؤشرات العكسية تقول إن الضغوط كانت قوية ومباشرة. -
فرنسا خرجت خاسرة لأنّها عجزت عن التأثير في القرار الجزائري.
وكأنّ باريس كانت في سباق مع برلين حول “من يحرّر” صنصال.
غير أنّ هذا الخطاب، على ما فيه من “قومية دبلوماسية” مصطنعة، يكشف هشاشته بمجرد طرح سؤال بسيط:
إذا كان النظام الجزائري قوياً وصامداً أمام التدخلات، فلماذا استجاب للضغط الألماني أصلاً؟
ثالثاً: الرواية المضادة – “الخبر السار لصنصال… والفضيحة الأخلاقية لتبون”
من جهة أخرى، أثار فيديو واسع الانتشار بعنوان:
«La bonne nouvelle de Boualem Sansal et la mauvaise nouvelle de la faillite morale de Tebboune»
ردّ فعل معاكس تماماً.
فالمحللون المنتقدون للنظام يرون أنّ القضية تُظهر فشلاً أخلاقياً وسياسياً لا انتصاراً، وأنّ النظام اضطر للإذعان بعدما أدرك أنّ استمرار التضييق على صنصال سيؤدي إلى أزمة مع ألمانيا، البلد الذي يحظى بنفوذ ثقافي وحقوقي قوي في أوروبا.
الرواية النقدية تعتبر:
-
أنّ المستفيد الأول هو صنصال، وليس النظام.
-
وأنّ الطلب الألماني فضح هشاشة السيادة التي يروّج لها النظام.
-
وأنّ محاولة نسب القرار إلى “مبادرة جزائرية” ليست سوى تغطية على رضوخ دبلوماسي.
وتذهب بعض التحليلات إلى أبعد من ذلك حين تقول إنّ محاولة تصوير الأمر كـ“إهانة لفرنسا” ما هي إلا هروب إلى الأمام، وإعادة تدوير خطاب عدائي يضمن للنظام تعبئة داخلية دون إنجازات حقيقية.
رابعاً: السياق الدبلوماسي… ألمانيا تتقدّم وفرنسا تتراجع
لفهم القضية بعمق، يجب تحليل المشهد الدبلوماسي:
1. ألمانيا: لاعب صاعد في شمال إفريقيا
خلال العقد الأخير، برزت ألمانيا كفاعل قوي في المنطقة، عبر:
-
دعم مشاريع الطاقات المتجددة في المغرب وتونس.
-
لعب أدوار في قضايا الهجرة والأمن.
-
احتضان المثقفين العرب والأفارقة الملاحَقين.
وقد تعزّز نفوذها بعد تراجع الدور الفرنسي عقب أزمات الساحل.
في هذا السياق، يصبح الضغط الألماني على الجزائر في قضية صنصال أمراً منطقياً.
2. فرنسا: قوة استعمار سابق بصوتٍ ضعيف
فرنسا، رغم نفوذها التاريخي في الجزائر، تعيش أزمة عميقة في علاقاتها بالمنطقة.
فالجزائر الرسمية تستخدم باريس باستمرار كـ“عدو وظيفي”، أي خصم ضروري لإبقاء التعبئة الوطنية قائمة.
لكن في المقابل، لا تستطيع الجزائر قطع العلاقات مع فرنسا اقتصادياً أو أمنياً.
وهكذا، يصبح الحديث عن “إهانة فرنسا” جزءاً من الاستعراض الإعلامي الذي يُخفي الحقيقة:
النظام الجزائري يعتمد على فرنسا اقتصادياً وإدارياً، رغم ادعاء العداء.
3. الاتحاد الأوروبي… بين قيم الحرية ومصالح الطاقة
القضية تتقاطع أيضاً مع توازنات أوروبية حساسة:
ألمانيا وفرنسا تتنافسان داخل الاتحاد الأوروبي على النفوذ في الضفة الجنوبية للمتوسط.
وما جرى في قضية صنصال يعكس هذا التنافس، حيث ظهرت برلين أكثر جرأة في الدفاع عن الكاتب الملاحق، بينما اكتفت باريس بالصمت.
خامساً: تبون بين مسرح البطولة وحدود القوة الحقيقية
إنّ المراقب للعلاقات الجزائرية-الفرنسية خلال فترة تبون يدرك أن النظام يتعامل مع باريس ليس بشكل استراتيجي، بل بشكل مزاجي مؤقت، تحكمه الأزمات الداخلية.
فكلّما واجه النظام:
-
أزمة شرعية،
-
أو احتجاجات اجتماعية،
-
أو تراجعاً اقتصادياً،
-
أو عزلة سياسية،
عاد إلى تحريك ملف “العداء لفرنسا” لإنعاش خطابه الداخلي.
ولذلك فإن تقديم “تحرير صنصال” كإهانة لفرنسا يدخل ضمن هذا الأسلوب:
تضخيم أيّ حدث وإعادة صياغته في لعبة رمزية تستهدف الداخل أكثر من الخارج.
لكن الواقع أبعد وأقسى:
فالجزائر لم تُهِن فرنسا، بل كشفت أنّ قرارها لا يُتّخذ إلا تحت ضغط خارجي، وأنّ “السيادة” التي تُرفع شعاراً لا تُمارَس فعلاً.
سادساً: من الرابح ومن الخاسر؟
1. الرابح الأكبر: بوعلام صنصال
خرج صنصال من دائرة الاستهداف، واستعاد حرية الحركة، بفضل دعم ثقافي وسياسي ألماني، ما يؤكد أنّ المثقف الحرّ يجد ملاذه خارج وطنه حين يتحول الوطن إلى جهاز رقابة.
2. الرابح الثاني: ألمانيا
برلين أظهرت أنها قادرة على التأثير في ملفات حساسة خارج حدودها، وأنّ خطابها الحقوقي ليس مجرد شعارات.
كما أثبتت أنها تتعامل مع شمال إفريقيا من منطلق اقتصادي وإستراتيجي، لا من منطلق تراث استعماري كما تفعل فرنسا.
3. الخاسر الأكبر: النظام الجزائري
سواء اعتُبر القرار تحدياً لفرنسا أو خضوعاً لألمانيا، فإنّ الصورة النهائية للنظام واحدة:
هو نظام يتأرجح بين شعارات القوة وواقع التبعية.
سابعاً: البعد الأخلاقي… لماذا يحتاج المثقف الجزائري إلى حماية أجنبية؟
تطرح قضية صنصال سؤالاً مؤلماً:
هل أصبح المثقف الجزائري بحاجة إلى حماية ألمانية أو فرنسية كي يمارس حقه في النقد؟
هذه ليست سابقة.
فمنذ عقود، وجد العديد من المثقفين الجزائريين أنفسهم:
-
مقتولين مثل بوضياف وبنشيخة،
-
أو منفِيّين كالكثير من الصحفيين والكتاب،
-
أو مضطرين للجوء إلى أوروبا.
وهكذا تتحول الجزائر، التي أنجبت كتّاباً كباراً مثل كاتب ياسين ومحمد ديب، إلى بلد “طارد للمثقفين”.
ثامناً: فرنسا في المخيال الجزائري… بين عقدة الماضي واستثمار السلطة
من الخطأ تحليل القضية دون التوقف عند البعد النفسي والسياسي للعلاقة بين الجزائر وفرنسا.
فالجزائر الرسمية ما تزال سجينة رواية تاريخية واحدة: “التحرر من الاستعمار”.
هذه الرواية تُستخدم سياسياً، خصوصاً حين تحتاج السلطة إلى صرف الأنظار عن مشاكل الداخل.
وبالمقابل، لا تبذل فرنسا جهداً كبيراً لتحسين صورتها في الجزائر، بل تبدو سياساتها مرتبكة، متأرجحة بين الاعتذار والتبرير.
وهكذا تصبح قضية مثل قضية صنصال أرضاً خصبة للمتاجرة الخطابية من الجانبين:
-
النظام الجزائري: يستخدمها لإظهار “قوته”.
-
فرنسا: قد تستخدمها لاحقاً لإحراج الجزائر في المحافل الحقوقية.
والضحية هو المثقف الذي تُختزل حريته في صراع رمزي بين دولتين.
تاسعاً: الخلاصة – الإهانة ليست لفرنسا… بل للحقيقة وللمواطن الجزائري
بعد تحليل معمّق، يمكن القول إن الخطاب الذي يروّج لفكرة “إهانة فرنسا” هو خطاب للاستهلاك الداخلي لا أكثر.
فلا فرنسا أُهينت، ولا الجزائر انتصرت.
بل إنّ ما يحدث يؤكد ثلاث حقائق واضحة:
-
النظام الجزائري لا يتحرك إلا تحت الضغط الخارجي.
-
الخطاب القومي الموجّه مصمَّم لإخفاء التناقضات الداخلية.
-
المثقف الجزائري ما يزال بلا حماية داخل وطنه.
أما “الإهانة” الحقيقية فهي إهانة الحقيقة، حين يحاول النظام استخدام قضية مثقف لمراكمة انتصارات رمزية فارغة.
وهي أيضاً إهانة للمواطن الجزائري، الذي يُستخدم وعيه وقضاياه في لعبة إعلامية لا تخدم مصالحه.








0 التعليقات:
إرسال تعليق