في هذا اليومِ تتدفَّقُ أخبارُ الثَّقافةِ والتِّكنولوجيا والأدبِ الرَّقميِّ على نحوٍ يُشبهُ شلَّالًا من التَّحوُّلاتِ المتوازية؛ فمن المغربِ إلى العالَمِ، ومن الرِّقمنةِ إلى الخَشَبِ والبرونزِ والقِصَّةِ التَّفاعليَّة، تبدو الخريطةُ وهمسُها واحدًا: «ثَقافةٌ ماضيةٌ في تحديثِ ذاتِها، وتِقنيَّةٌ تتعلَّمُ كيف تُصغي إلى الإنسان». ففي الدَّارِ البيضاءِ مثلًا، عادَ النِّقاشُ الحضريُّ بقوَّةٍ بعدَ صدورِ مؤشِّرٍ دوليٍّ وضعَ المدينةَ ضمنَ الأكثرِ ازدحامًا في إفريقيا، بما يحرِّكُ ملفَّاتِ التَّلوُّثِ وحوكمةِ النَّقلِ وإيكولوجيا الحياةِ اليوميَّةِ، ويُعيدُ صلةَ الثَّقافةِ بالمدينةِ وبالمواطِنِ الذي يُريدُ مسرحًا يُشبِهُه ومَتحفًا يتنفَّسُ هواءً نظيفًا. وفي الأفقِ نفسهِ، أعلنتْ سلطاتُ الطَّيرانِ عن مشروعِ مَحطَّةٍ جديدةٍ بمطارِ محمَّدِ الخامس بطاقةٍ استيعابيَّةٍ ضخمةٍ، ما يَعِدُ بجذبِ معارضَ وفعاليَّاتٍ فنِّيَّةٍ ودوليَّةٍ أكبرَ وبانفتاحٍ سياحيٍّ يُغذِّي اقتصادَ الإبداعِ ويضاعفُ حِراكَ الصَّناعاتِ الثَّقافيَّة. أمَّا عربيًّا، فتبرزُ إشاراتٌ مُضيئةٌ من الخليجِ حيثُ تُمنَحُ أدوارٌ رمزيَّةٌ لمُبدعين وقادةِ مؤسَّساتٍ ثَقافيَّةٍ، وتُفعَّلُ مبادراتُ تلاقٍ حضاريٍّ بين العربِ واليونانِ على هامشِ المعارضِ الكِتابيَّةِ الكبرى، في تأكيدٍ أنَّ الدِّبلوماسيَّةَ الثَّقافيَّةَ أصبحتْ محورًا لصورةِ المنطقةِ في العالَم. وعلى الجناحِ الإفريقيِّ، خَطَفَتْ نيجيريا الأضواءَ مع احتجاجاتٍ رافقتِ الافتتاحَ «اللَّيِّن» لمتحفِ فنونِ غربِ إفريقيا في بِنِين سيتي، بما يَطرحُ بقوَّةٍ سؤالَ العدالةِ المتحفيَّةِ ومصيرِ البرونزاتِ البِنينيَّةِ، فيما قدَّمت جوهانسبرغ درسًا بديعًا في تحويلِ نفاياتِ الأنهارِ إلى منحوتاتٍ تُرمِّمُ الذائقةَ والطَّبيعةَ معًا. عالميًّا، تتهيَّأ لندنُ لعرضٍ مفصليٍّ في المتحفِ البريطانيِّ يُعيدُ قراءةَ أسطورةِ السَّاموراي بعيدًا عن الكليشيهاتِ الذُّكوريَّةِ، بينما تستعدُّ مومباي لطبعةٍ جديدةٍ من سوقِ الفنِّ تأخذُ المدينةَ إلى خرائطِ المشاركةِ الدُّوليَّةِ، في توازٍ مع أجنداتٍ أوروبيَّةٍ كثيفةٍ في نوفمبر تُنعِشُ قاعاتِ العروضِ وتَستدرجُ جمهورًا عابرًا للُّغات.
وبينما تتحرَّكُ الثَّقافةُ، تتحرَّكُ معها الصِّناعةُ الرَّقميَّةُ والإعلاميَّةُ في المغربِ والعالَمِ العربيِّ وإفريقيا؛ فالمملكةُ تُسرِّعُ خططَ السِّيادةِ الرَّقميَّةِ عبرَ أُطرٍ أخلاقيَّةٍ للمنصَّاتِ والذَّكاءِ الاصطناعيِّ، ومشاريعِ سحابةٍ وطنيَّةٍ ومركزِ بياناتٍ عملاقٍ في الداخلةِ، بالتَّوازي مع تشريعٍ جديدٍ يُمهِّدُ لحوكمةِ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ والهويَّةِ الرَّقميَّةِ وقابليةِ التَّشغيلِ البينيِّ؛ وهي مساراتٌ تُوازي تفعيلَ خدماتِ الجيلِ الخامسِ وما تَعِدُ به من إعلامٍ مُتنقِّلٍ فائقِ السرعةِ وصحافةِ بياناتٍ أكثرَ تفاعُلًا. عربيًّا، تتوسَّعُ المدارسُ والمبادراتُ الشِّتويَّةُ المتخصِّصةُ في الذَّكاءِ الاصطناعيِّ بدعمٍ مؤسَّسيٍّ، وتُطلقُ شركاتٌ إقليميَّةٌ منصَّاتِ خدمةِ زبناء «عربيَّةٍ أوَّلًا» تُدَرَّبُ على سياقاتِ اللُّغةِ والسُّوقِ المحليَّة، فيما تُعلِنُ شركاتُ استشاراتٍ كبرى شراكاتٍ سحابيَّةً لتعزيزِ جاهزيَّةِ الأعمالِ للانتقالِ الذَّكيِّ. وعلى الضِّفَّةِ الإفريقيَّةِ الأوسعِ، تتحرَّكُ مهرجاناتُ التِّكنولوجيا في كيب تاون وتَعْلو نداءاتُ محوِ الأُمِّيَّةِ الرَّقميَّةِ في ناميبيا لتأهيلِ الجمهورِ لمواجهةِ التَّحوُّلاتِ الزَّاحفةِ إلى سوقِ العملِ، بينما تُظهِرُ مؤشِّراتُ «وول ستريت» كيف يُعكِّرُ اندفاعُ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ قراءةَ لوحةِ الاقتصادِ العالميِّ ويعيدُ رسمَ خرائطِ الاستثمارِ من أشباهِ المُوصِّلاتِ إلى الطَّاقة.
وفي المغربِ أيضًا يتدعَّمُ خيارُ «تعميمِ المهاراتِ» من الطُّفولةِ عبرَ برامجَ وطنيَّةٍ لتعليمِ علومِ الرَّقمنةِ والذَّكاءِ الاصطناعيِّ، وهو ما يَعِدُ بإمدادِ الصِّناعةِ الإعلاميَّةِ والأكاديميَّةِ برأسمالٍ بشريٍّ جديدٍ يُجيدُ التَّفكيرَ الحسابيَّ ويَفهَمُ أخلاقيَّاتِ الآلةِ، ويَصوغُ تجاربَ سرديَّةً وإعلاميَّةً مُبتكَرةً في الفضاءاتِ التَّفاعليَّةِ والمنصَّاتِ المُتداخِلةِ. وعلى مستوى العالَمِ، تُواكِبُ الصَّحفُ المتخصِّصةُ «أسبوعَ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ» بترسيمِ أجندةِ أحداثٍ من صُلبِها أسئلةُ استهلاكِ الطَّاقةِ، والخصوصيَّةِ، وصعودِ الرُّفقاءِ الرَّقميِّين، فيما تواصلُ شركاتُ الموضةِ والإعلامِ تتبُّعَ أثرِ الذَّكاءِ الاصطناعيِّ في الصِّنعاتِ الإبداعيَّةِ من حيثُ التَّنظيمُ والسُّوقُ وأخلاقيَّاتُ التَّوليدِ الصُّوريِّ.
أمَّا في حقلِ الأدبِ الرَّقميِّ، فالصُّورةُ اليومَ أكثرُ امتلاءً ممَّا تبدو عليهِ من بعيدٍ؛ فالعالَمُ العربيُّ يُسجِّلُ ديناميَّةً نقديَّةً ومؤسَّسيَّةً مع توثيقِ تجاربَ ثوريَّةٍ في السُّوريِّ والبحثِ في تحوُّلِ الموسوعاتِ العربيَّةِ إلى صيغٍ رقميَّةٍ مُتقدِّمةٍ، بينما تُقيمُ الدُّوَلُ الخليجيَّةُ مؤتمراتٍ أكاديميَّةً حولَ الدِّراساتِ العربيَّةِ في أوروبا وتقاطعاتِها مع الوسائطِ الجديدةِ؛ وكلُّ ذلكَ يُحرِّكُ المشهدَ نحوَ أرشفةٍ أذكى وإتاحةٍ أفضلِ للمحتوى العربيِّ المتعدِّدِ الوسائطِ. وفي إفريقيا، تتقاطعُ ممارساتُ «الفنِّ الإيكولوجيِّ» مع السَّردِ البصريِّ لتُنتجَ أعمالًا تُعرَضُ وتُشاركُ عبرَ المنصَّاتِ الرَّقميَّةِ، ما يُرسِّخُ صوتهُ الجماليَّ في الشبكاتِ العابرةِ للحدود. وعلى الخريطةِ العالميَّةِ، تُواصلُ منظَّماتُ الأدبِ الإلكترونيِّ فتحَ بابِ التَّرشُّحِ لمجمَّعاتٍ جديدةٍ وإعلانَ مؤتمراتٍ عن بُعدٍ تُصلحُ لزمنٍ يحترمُ أثرَ الكربونِ ولا يُفرِّطُ في جودةِ المعرفةِ؛ فيما تُواكبُ منصَّاتٌ أدبيَّةٌ كبرى يوميًّا صدورَ النُّصوصِ والكتبِ، وتُذكِّرُ جائزةُ نوبل الحديثةُ كيف يمكنُ للمنجزِ الورقيِّ أن يُلهِمَ، وللأدبِ الرَّقميِّ أن يُكمِّلَ، في تكافُلٍ يَصُبُّ في مصلحةِ القارئِ وحرِّيَّةِ التَّعبيرِ معًا.
وهكذا يتجاوَرُ في مشهدِ اليومِ المغربيِّ والعربيِّ والإفريقيِّ والعالميِّ، مسرحٌ يُعيدُ تأويلَ تاريخهِ، ومتحفٌ يُسائلُ ذاكرتَه، ومطارٌ يتَّسِعُ لأحلامِ المسافرينَ والكتبِ والفرقِ والفِرَق، ومنصَّاتٌ رقميَّةٌ تتعلَّمُ «الحِلمَ الأخلاقيَّ» للآلةِ، ومختبراتٌ تتساءلُ عن «اقتصادِ الذَّكاءِ» وحدودِه. إنَّهُ يومٌ يُعلِّمُنا أنَّ الثَّقافةَ لا تنفصلُ عن التِّكنولوجيا، وأنَّ الأدبَ الرَّقميَّ ليس «ترفًا» بل هو منهجٌ جديدٌ للقراءةِ والكتابةِ والتَّعلُّمِ والمواطَنةِ؛ يومٌ يُعيدُ ترتيبَ الأسئلةِ ويتركُ لنا الوعدَ المفتوحَ: أنْ نقرأَ العالمَ ونُعيدَ كتابتَهُ بِنَفَسٍ أهدأَ، وخيالٍ أوسعَ، ومسؤوليَّةٍ أكبر.








0 التعليقات:
إرسال تعليق