في هذا الأسبوع، كان على الثقافة المغربية أن تُجرِّب، مرّةً أخرى، كيف تُوازن بين ما يشتعل في المختبرات الرقمية من أحلامٍ بصريّة، وما يهدأ في دفاتر الطفولة من حروفٍ تتعلم المشي، وما يترسّب في ذاكرة الأُمّة من رموزٍ ومواسم. لم تكن الأحداث مجرّد مواعيد في رزنامة، بل علامات طريق: مدينةٌ تُنيرها شاشات الفنّ، ومتحفٌ يلمّ شتات الذكرى كي يقدّمها عملاً تركيبياً، وصالةٌ عريقة في باريس ترتدي ألوان المغرب لليلةٍ واحدة كي تقول إن للذاكرة أجنحةً تُحلّق خارج الجغرافيا، ثم ورشاتٌ مسرحية في مدارس الشمال تعلّم الصغار كيف يلتقطون أنفاسهم وهم يقفون على الخشبة، ومعهدٌ حديثٌ في أقصى الجنوب يُعيد ترتيب العلاقة بين الموهبة والصنعة والاقتصاد.
في الدار البيضاء، بات المهرجان الدولي لفن الفيديو محطةً ثابتةً لقياس قدرة المدينة على التفاعل مع الحساسيّات الجديدة للفنون. السنةُ الحادية والثلاثون ليست رقماً احتفالياً وحسب؛ إنّها برهانٌ على انتقال الفنون السمعية البصرية من هامش التجريب إلى صلب المشهد، وما عرض IA Dream للفنان Moula Moulla سوى استعارةٍ عن يقظة العيون أمام الصور المُصنَّعة بالذكاء الاصطناعي. فالمسألة اليوم لا تتعلق بمجرّد أدواتٍ رقمية؛ بل بوعيٍ جماليّ يسأل: كيف تُغيّر الخوارزميّات حسّنا البصريّ؟ كيف يُمكن للمشهد أن يظلّ مشهداً إذا صار الذكاء الاصطناعي جزءاً من «كاميراه» الداخلية؟ هنا يتقدم سؤال الأخلاقيات بجوار سؤال الذائقة: هل يهدّد الذكاء الاصطناعي أصالة الفنان، أم يكشف عن أصالةٍ جديدةٍ هي أصالة القدرة على التوليف بين البشريّ والآليّ؟ من مكاسب هذه الدورة أيضاً الكفاءاتُ التقنية التي تُنشَّأ عبر تكويناتٍ متخصّصة في Pro AV، ما يعني أنّ الصناعة الثقافية لا تكتفي بالعرض، بل تبني للغد عمّاله المؤهلين. إنّها لحظة انتقالٍ من «الفنّ كحدث» إلى «الفنّ كمنظومة».
على مسافة أمتارٍ من فضاءات الصورة، تحتضن العاصمة الاقتصادية الدورة الثالثة من SILEJ، المعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب. ليس سراً أنّ معركة القراءة اليوم تمرّ عبر جسر الطفل: من يتعلّم كيف يُصغي إلى الحرف في سنٍّ مبكّرة لن يُضيّع بوصلته في زحام الشاشات. لذلك تبدو الشراكات مع معهد سرفانتيس وسفارة إسبانيا، ومع حضور مؤسسات دولية كـاليونيسف، دليلاً على أنّ الكتاب الطفلي صار مجالاً دبلوماسياً بامتياز؛ تُبنى فيه الجسور مع الآخر عبر القصص المصوّرة، وتُدار فيه رهانات القيم والمواطنة والبيئة والمساواة بلغةٍ حكائيةٍ مُيسّرة. في هذا الأفق، لا يُفهم «المعرض» مجرّد أجنحة بيع وشراء، بل ورشةً اجتماعية لإعادة المعنى إلى الحكاية حين تُهدِّد «الفيديوهات القصيرة» مقامَ القصة الطويلة. إنّ تثبيتَ موعدٍ سنويٍّ لهذا المعرض يشي بأنّ المغرب ينتقل تدريجياً من «ثقافة المناسبات» إلى «ثقافة الاستدامة» في مجال صناعة كتاب الطفل.
وإذا كان جيل المستقبل هو عنوان الرهان التربوي، فإن الذاكرة الوطنية هي عنوان الرهان الرمزي. في الرباط، يعرض متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر معرضاً خاصاً بخمسينية المسيرة الخضراء. المعارض ليست نصوصاً تذكارية فحسب؛ إنّها سيميائيات جديدة لقراءة الماضي عبر وسائط الفنّ: صور، لوحات، مواد أرشيفية، تركيبات، وربما أصواتٌ تلتقط فواصل من خطابٍ قديم لتضعه في موضع قراءةٍ معاصر. حين تخرج الذاكرة من الكتب إلى الجدران المضيئة، تتغير علاقتنا بها: نصير، نحن الزوّار، جزءاً من «العمل الفني» الذي يعيد صياغة المشهد الوطني. ولعلّ موازاة ذلك بما يجري في أولمبيا بباريس —حيث تُخصّص ليلة بألوان المغرب— وبما افتُتح في تاراغونة من معرضٍ فوتوغرافي بعنوان «نهضة الجنوب المغربي»، يجعل من الذكرى شبكة عروضٍ عابرةٍ للحدود: ذاكرةٌ تمشي على الضوء، تنعكس على مسارح العالم وقاعاته، وتؤكد أن الثقافة سفيرٌ فعّالٌ حين تتكلم بلغة الفنّ لا لغة البلاغة الرسمية وحدها.
غير أن الثقافة لا تُصنع في المتاحف الكبرى فقط. ثمّة حيثياتٌ صغيرة ولكنها جوهرية: ستّ ورشاتٍ مسرحية في المضيق خصّصت لعشرات التلاميذ، كانت كفيلةً بأن تذكّرنا لماذا يُسمّى المسرح «أبا الفنون». في تلك الورشات، يتعلّم التلميذ كيف يُمسك إيقاع الصوت والنظر، كيف يُدوّن نفسه في جملةٍ تُقال على الخشبة، وكيف يفهم الآخر وهو يُجسِّده. هذه التربية الجمالية ليست ترفاً؛ إنّها بيداغوجيا المواطنة: أن تتكلم، أن تصغي، أن تقف، أن تُخطئ فتستدرك. ومن هنا، تلتقي المدرسة بالخَشَبَةِ كما يلتقي الصفُّ بفضاء المدينة.
وفي الداخلة، يفتح معهدٌ جديدٌ أبوابه لفنون الصناعة التقليدية. نحن هنا أمام «اقتصادٍ ثقافيّ» بملامح ملموسة: قاعاتٌ للتكوين النظري، ورشات تطبيقية، فضاءات للعرض، وبُنى للتكوين المستمر. هذا التحوّل من مهارةٍ تُنقل شفوياً إلى منهاجٍ بيداغوجي يُدرَّس ويُقاس ويُطوَّر، يعني أننا نتجاوز نظرة الفولكلور إلى منظور «الصناعات الثقافية والإبداعية» التي تُضيف للثقافة قيمةً تبادليةً وتنافسيةً في السوق. ولعلّ الموقع الجغرافي للداخلة يمنح لهذا المشروع بعداً استراتيجياً: بوابةً نحو إفريقيا الأطلسية، وحاضنةً لأجيالٍ جديدةٍ ترى في الحرفة مساراً للابتكار لا تكراراً للماضي.
على صعيد النشر، يتقدّم عملٌ توثيقيٌّ جديدٌ حول المسيرة الخضراء، من توقيع الباحث خليل بن الشهبة. حين يعود المؤلّف إلى أرشيف الحدث ليعيد ترتيبه وفق كرونولوجيا صارمة، فإنّه لا يضيف إلى الرفّ كتاباً آخر وحسب؛ بل يقدّم «عدسةً سردية» تُعين الباحثين والمدرّسين والصحفيين على صوغ روايتهم بعنايةٍ أكبر. إنه سعيٌ إلى تاريخانيةٍ دقيقة لا تُسقط سياق اللحظة الراهنة على وقائع الأمس، كما تفعل الآراء حين تتسرّع. هذا النوع من الإصدارات يصنع خلفيةً صلبةً لأيّ نقاشٍ عموميّ حول الذاكرة والوحدة الترابية.
هكذا، تتجاور في أسبوعٍ واحد ثلاثة مستويات: مختبر الصورة في الدار البيضاء، متحف الذاكرة في الرباط، ومدرسة الحرفة في الداخلة؛ تتقاطع معها مدرسة الخشبة في المضيق، ومعارض القصة الطفليّة التي تريد أن تعيد للقراءة مكانتها الأولى. من هذه التشابكات يمكن أن نخرج بخلاصاتٍ خمس:
-
أن الرقمنة ليست زينة شكلية؛ فقد باتت تُحدِّد الطريقة التي نتلقّى بها العمل الفني ونُنتجه. في فن الفيديو، تتلاشى الحدود بين الصورة الملتقطة والصورة المُولَّدة خوارزميّاً، فتغدو الأصالة سؤالاً تربوياً وجمالياً وأخلاقياً في آنٍ واحد. وما تكوينات Pro AV إلا تجهيزٌ للعقل الجمعي للتعامل مع هذا التحوّل.
-
أن الطفل هو مِفتاحُ الاستدامة الثقافية؛ فلا مستقبل لصناعة النشر إن لم تُبنَ جسورُها في سنٍّ مبكّرة. معارض مثل SILEJ تشكّل بيئةً تعلّمية لا تقلّ أهمية عن المدرسة، وتدفع الفاعلين إلى ابتكار موادّ قرائية متعددة اللغات تُراعي هوية البلد وانفتاحه.
-
أن الذاكرة الوطنية حين تُعرض كفنٍّ، تُستعاد كقوّةٍ رمزية ناعمة؛ معرض الرباط، وليلة أولمبيا، وصور تاراغونة، كلها أمثلة على أن «الدبلوماسية الثقافية» ليست خطاباً رسمياً فحسب، بل سلوكُ صورٍ وأصواتٍ ونُصُبٍ تُقنعُ الجمهور الدولي بأن الحكاية المغربية قابلةٌ لأن تُروى بلغات الفن.
-
أن الجهوية الثقافية ليست شعاراً؛ فاس تُعلن شهرها الثقافي، المضيق تُعيد وصل الطفل بالمسرح، والداخلة تُقنّن الحِرَف في معهدٍ متخصص. هكذا تتوزّع الجغرافيا الثقافية بما يمنع تمركز «المدن الكبرى» وحدها، ويمنح الأقاليم حقّها في التأثير.
-
أن الكتاب التوثيقي ليس رفاهيةً أكاديمية؛ بل هو حجر زاوية في بناء سردياتٍ رصينة، لا سيما حين يتعلق الأمر بمحطاتٍ جامعة كالمسيرة. إن إعادة سرد «الوقائع» وفق منطقٍ كرونولوجي محقّق، يوفّر للباحثين والإعلاميين مادةً تُقاوم التسرّع والسطحية.
على ضوء هذه الخلاصات، يمكن اقتراح ثلاث مقاربات عملية لتعظيم أثر هذه الدينامية:
أولاً، إقامةُ جسورٍ مؤسسية بين المهرجان الدولي لفن الفيديو ومنظومات التعليم العالي في فنون الصورة والبرمجة الإبداعية، بهدف إدراج وحداتٍ مشتركة تُعمِّق المعرفة بالخوارزميات الجمالية، وتُقيم مشاريع تخرّجٍ تُعرض في فضاءات المهرجان نفسه. إن المزاوجة بين التكوين والعرض تُنتج «حلقةً فاضلة» تُخفض كُلفة التجريب على الفنان الشاب وتُسرِّع اندماجه المهني. مغرس
ثانياً، تحويل SILEJ إلى منصّةٍ سنوية لإطلاق مجموعات قرائية عربية–أمازيغية–فرنسية مشتركة للأطفال، مع تشجيع دور النشر على إنتاج «حزم» تُسعَّر بأسعارٍ تشجيعية للمدارس العمومية، وربط ذلك بمسابقاتٍ وطنية في كتابة القصة القصيرة المصوّرة تُشرف عليها لجان تربوية وفنية. هكذا يصبح «المعرض» معملاً لإنتاج القُرّاء، لا لبيع الكتب فقط.
ثالثاً، بناء برنامج ذاكرة متنقلة يتنقّل بين الرباط، الداخلة، فاس، والمضيق: شاحنةُ معرضٍ صغيرٌ يحمل مختاراتٍ من «ذاكرة المسيرة» وأعمال فيديو آرت تعليمية، وورشات مسرحٍ ومشاغل حِرفٍ تقليدية، بحيث يرى الطفل في المدينة المتوسطة ما يراه ابن العاصمة في متحفه. إنّ عدالة الوصول إلى الثقافة لا تقلّ قدسيةً عن عدالة الوصول إلى المدرسة.
في المحصلة، لا تبدو الثقافة المغربية في هذا الأسبوع مجرّد فسيفساء مواعيد، بل خريطةَ طاقة: ضوءٌ يُجرَّب في مختبرات الصورة، ذاكرةٌ تُعرض بوصفها فناً دبلوماسياً، كتابُ طفلٍ يرسم ملامح قارئ الغد، ومسرحٌ يعيد للمدرسة نَفَسَها، وحِرفةٌ تُعلن أنّ الهوية ليست متحفاً، بل اقتصاداً أيضاً. على هذه الطريق، نُدرك أنّ «التحوّل الثقافي» لا يُقاس بعدد المنصّات أو المهرجانات، بل بقدرته على أن يغيّر طرق العيش: كيف ننظر، كيف نقرأ، كيف نحتفل، وكيف نعمل.
ولعلّ أجمل ما في الأمر أنّ هذه العلامات كلّها جرت في أيامٍ متقاربة: كأن البلاد اختارت أن تُدرّب ذاكرتها على الجري في مساراتٍ متوازية. وإذا كانت المسيرة في معناها الأصيل حركةً جماعيةً نحو أفقٍ وطنيّ، فإن المشهد الثقافي اليوم يقدّم صورته الخاصة من المسير: مسيرةُ ضوءٍ ومعنى، تسير من شاشةٍ إلى كتاب، ومن كتابٍ إلى متحف، ومن متحفٍ إلى خشبة، ومن خشبةٍ إلى ورشة، حتى تستقرّ في نبرة الحياة اليومية التي لم تعد ترى الثقافة زينةً عادلةً للتصفيق، بل ضرورةً عادلةً للعيش المشترك.








0 التعليقات:
إرسال تعليق