تشهد الساحة الثقافية العربية خلال الأيام القليلة الماضية تدفّقًا لافتًا لإصدارات جديدة متنوّعة تتوزّع بين النقد السردي، والسيرة الوطنية، والفلسفة الميسّرة، والرواية، والدوريات المتخصصة في الحوكمة. ومن خلال هذه العناوين الستّة، يمكن تلمّس خيط دقيق يجمعها جميعًا: الرغبة في فهم التحوّل، سواء أكان تحوّلًا سرديًا أو سياسيًا أو معرفيًا أو وجوديًا. إنها كتب تصدر من جهات عربية مختلفة، لكنها تُحاور القارئ العربي حول سؤال جوهري واحد: كيف نعيد قراءة الذّات والعالم؟
في هذه القراءة الشاملة، نحاول رسم مشهد تحليلي جامع، يبرز خصوصية كل كتاب ويكشف الروابط البينية التي تجمعها ضمن مسار ثقافي عربي جديد يتّجه نحو إعادة التفكير لا إعادة التلقّي.
1 ــ “الصدمة السردية”: من السكون إلى الحركة… ومن العالم إلى النص
في كتابه الجديد "الصدمة السردية: متتالية التحوّل من السكون إلى الحركة"، يواصل الناقد العراقي محمد جبير تفكيك منطق الحكاية العربية عبر زاوية جديدة تقوم على مفهوم “الصدمة”. يقدّم جبير الجزء الأول من ثلاثية نقدية، ويبدو أن مشروعه يسعى إلى إعادة تعريف السرد بوصفه عملية تصادمية تنتقل من الركود إلى الانفجار.
فالكتاب لا يقرأ النصوص على أنها روايات أو قصص، بل على أنها تحولات حسّية؛ كائنات متوترة تعصف بها الأحداث، وتتمرد على سكونها. وقد يكون هذا الطرح امتدادًا لجهود عربية سابقة اشتغلت على “الصوت السردي” و“البنية الدرامية”، لكنه يضيف إليها بعدًا ديناميًا يذكّر بمقاربات فالتر بنيامين حول “صدمة الحداثة” التي تجعل من القارئ طرفًا مشاركًا لا متلقّيًا محايدًا.
إنه كتاب يعلن منذ عنوانه أنّ السرد لم يعد فضاءً زمنيًا بل أصبح طاقة متحركة.
2 ــ “مسارات صعبة”: سيرة صلاح خلف كمرآة للحركة الوطنية الفلسطينية
يأتي كتاب "مسارات صعبة" ليعيد قراءة سيرة صلاح خلف (أبو إياد) عبر مقاربة توثيقية تحليلية وضعها معين الطاهر ومنى عوض الله. ما يميّز هذا العمل هو أنه لا يقدّم السيرة في شكلها التقليدي، بل يرصدها في تفاعلها مع تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية من 1933 إلى 1971.
فالكتاب يعرض حياة أبو إياد بوصفها تجسيدًا لمسار نضالي جمع بين العمل الاستخباراتي والسياسي والتنظيمي. وهو بذلك يساهم في سدّ فجوة معرفية في الأدبيات الفلسطينية التي كثيرًا ما عانت من غلبة السرد الوجداني على التحليل الموضوعي.
وتبدو أهمية الإصدار في قدرته على تحويل السيرة إلى مفتاح لفهم التحوّلات الكبرى التي شهدتها القضية الفلسطينية خلال مرحلة التأسيس، وهي قراءة تحتاجها المنطقة العربية اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظلّ كثافة الانتقالات الجيوسياسية.
3 ــ "نصوص فلسفية ميسرة": تبسيط التفكير دون تسطيح المفاهيم
الكتاب الجزائري "نصوص فلسفية ميسرة" للباحث خالد مصطفاوي يقدّم مقاربة تعليمية رصينة، تستهدف القارئ العام والطالب على حد سواء. فالعمل يضم نصوصًا مختارة بعناية تتناول قضايا القيم والإبستمولوجيا ومفاهيم الفلسفة الأساسية.
تكمن قوة الكتاب في قدرته على تبسيط الفلسفة من دون أن يفقدها عمقها. فهي ليست نصوصًا مدرسية، بل مقدمات فكرية تساعد القارئ على فهم آليات التفكير الفلسفي، من التحليل إلى الإنشاء، وتفتح الباب أمام جسر حقيقي بين الفلسفة الأكاديمية والحياة اليومية.
هذا النوع من الكتب يساهم في تحديث الثقافة الفلسفية في المغرب العربي، حيث تتزايد الحاجة إلى خطابات فكرية ميسّرة تحارب السطحية وتواجه انتشار “المعلوماتية” غير المؤسَّسة.
4 ــ "لم نأكل التفاح": سرد سوري يلتقط هشاشة الإنسان في زمن الخراب
تواصل الروائية السورية ريما بالي توسيع مسارها الروائي بإصدار عملها الخامس "لم نأكل التفاح". الرواية الجديدة، الصادرة عن دار مسكلياني، تأتي بعد نجاح روايتها السابقة "خاتم سليمى" التي بلغت القائمة القصيرة للبوكر العربية سنة 2024.
تشتغل بالي على منطقة سردية حساسة تجمع بين تفكك الذات السورية وأسئلة الذنب والفقد والخيانة في زمن الحرب. العنوان نفسه يوحي بمفارقة “الخطيئة الأصلية المعكوسة”؛ فالشخصيات لم تأكل التفاح لكنها وجدت نفسها داخل جحيم خارجي وداخلي في آن واحد.
تستثمر الكاتبة في اللغة المضمرة، وفي البنية النفسية للشخصيات، وفي عالمٍ تتقاطع فيه الذاكرة مع الوهم، لتصنع رواية تبدو أقرب إلى محاولة استعادة إنسانية مهدّدة بالألم والضياع.
5 ــ "حكامة" 11: حين تصبح الحوكمة سؤالًا وجوديًا عربيًا
العدد الحادي عشر من دورية "حِكامة" يقدّم ملفًا بحثيًا نوعيًا حول حوكمة قطاع الدفاع والأمن والاستخبارات في البلدان العربية، وهو موضوع نادر الطرح في الحقل الأكاديمي العربي نظرًا لطبيعته الحسّاسة.
تكمن أهمية هذا الإصدار في ثلاثة عناصر:
-
تطوير خطاب علمي عربي حول الأمن والحوكمة بدل ترك المجال للمدارس الغربية وحدها.
-
فتح مجال المقارنة بين الدول العربية المختلفة في مقاربة الأمن الوطني.
-
تقديم أدوات تحليلية تساعد الباحثين وصنّاع القرار على فهم التوازن بين الدولة والمجتمع والمؤسسات الأمنية.
العدد يشكّل خطوة معرفية جريئة، لأنّه ينقل الحوكمة من سياقها الإداري الضيق إلى سياق وجودي وسيادي يمسّ مستقبل الدولة العربية نفسها.
6 ــ "شظايا تحت الرماد": رواية عُمانية تُعيد تشكيل الوهم بالواقع
يقدّم الكاتب العُماني سالم السيابي روايته "شظايا تحت الرماد"، وهي رواية تشويقية تنتمي إلى أدب الغموض والجريمة، لكنها تعمل في خلفيتها على تفكيك العلاقة بين الوهم والواقع.
يعتمد السيابي على حبكة مُحكمة وشخصيات تعيش على حدود الشكّ والخوف والانفجار الداخلي، ليصوغ رواية لا تقوم فقط على التشويق، بل على تحليل نفسي دقيق. فالعنوان نفسه يشي بأنّ الرواية ليست عن النار، بل عمّا تبقّى منها؛ عن الرماد ما قبل الاشتعال الجديد.
إنه عمل يُدخل الأدب العُماني إلى فضاء أرحب، حيث يتقدّم السرد نحو التجريب دون أن يفقد جاذبية الحكاية.
خاتمة: نحو فصل ثقافي عربي يكتب تحوّله بنفسه
تجمع الإصدارات الستة خيطًا روحيًا واحدًا: كلّها تبحث عن معنى التحوّل.
-
محمد جبير يلاحق تحوّل السرد.
-
معين الطاهر ومنى عوض الله يدرسان تحوّل الحركة الوطنية.
-
خالد مصطفاوي يبسّط تحوّل الفكر إلى معرفة.
-
ريما بالي ترصد تحوّل الإنسان في زمن العطب.
-
مجلة "حكامة" تحلل تحوّل الدولة العربية تحت ضغط الأمن.
-
سالم السيابي يعيد تشكيل التحوّل من الوهم إلى الحقيقة.
هذه ليست مجرد كتب منفصلة؛ إنها بوصلة معرفية تشير إلى أن الثقافة العربية ــ رغم أزماتها ــ ما تزال قادرة على تحديث نفسها وطرح أسئلتها الكبرى بجرأة وعمق.
إنها إصدارات تفتح نوافذ جديدة للقارئ العربي، وتدعوه إلى إعادة التفكير فيما يقرأ، وكيف يقرأ، ولمن يكتب.








0 التعليقات:
إرسال تعليق