لا يكاد قارئ الأدب السوسيولوجي الرقمي يقترب من عالم الباحثة الأميركية شيري توركل حتى يشعر بأنّه يسير فوق طبقة رقيقة تفصل بين هشاشة الإنسان وصلابة الآلة. في كتابها الشهير «Alone Together»، الذي يُعَدّ امتداداً لسنوات طويلة من البحث في تفاعل البشر مع التكنولوجيا، تحاول توركل أن تفكّ عقدة معقّدة: كيف أصبح الاتصال الدائم سبباً في شعور الإنسان بالوحدة؟ وكيف تحوّل الاندماج في الشبكات الرقمية إلى قطيعة داخل الذات نفسها؟
تسرد توركل، بأسلوب أقرب إلى النقد النفسي، مشاهد دقيقة تُظهر فيها أنّ التكنولوجيا لا تأتي دائماً في هيئة المنقذ. فالأجهزة الذكية، بما فيها الروبوتات الاجتماعية والمنصّات التي تنسج خيوط علاقات تبدو مُبهِجة، تُعيد تشكيل بنية العاطفة الإنسانية دون أن نلتفت إلى ذلك. فالعلاقة التي تُنشئها الذات مع الهاتف أو الروبوت أو الشاشة ليست مجرد علاقة استخدام، بل علاقة تربية جديدة: تربية على الاستجابة السريعة، على التجزئة الذهنية، وعلى تبادل الانطباعات القصيرة بدل المشاعر العميقة.
ولعلّ أهم ما يثير القارئ هو أن توركل لا تكتفي بالإشارة إلى عدد من الظواهر التي نعرفها جميعاً — الأطفال الذين يتحدّثون مع روبوتات صغيرة وكأنها كائنات واعية، المراهقون الذين يجدون في العالم الافتراضي مساحة آمنة للهروب من واقع غير مكتمل، البالغون الذين يشعرون بأنهم "متصلون أكثر، وحيدون أكثر" — بل تحوّل كل هذه التفاصيل إلى سؤال وجودي:
ما الذي نخسره حين نربح التكنولوجيا؟
يبدو الكتاب، في كثير من صفحاته، وكأنه محاولة لصياغة نوع من المرثية للحميمية البشرية التي تتسرّب من بين الأصابع. فالحوارات التي تسجّلها توركل مع أطفال أو مختبرين أو مستخدمين عاديين تُظهر شيئاً أكثر عمقاً من مجرد "إدمان" على الأجهزة:
إنه تحوّل في طريقة تشكيل النفس لنفسها.
تقول إحدى الفتيات في مقابلة: "أفضّل أن أتحدث مع روبوت… فهو لا يحكم عليّ."
هذه الجملة وحدها تكشف حجم الخسارة الأخلاقية التي قد تترتب على استبدال العلاقات الإنسانية بعلاقات قابلة للتحكم.
لكن توركل ليست عدائية تجاه التكنولوجيا، ولا تقترح الانسحاب من العالم الرقمي. بالعكس، تقف في منطقة وسطى وتدعو إلى نوع من "الأخلاق الرقمية" التي تعيد للإنسان قدرته على الموازنة: أن يستخدم التقنية دون أن يسمح لها بإعادة صياغة مشاعره ومعاييره وقيمه.
يمكن تلخيص أطروحة الكتاب في جملة حادّة:
"صرنا معاً أمام الشاشات… لكننا أكثر وحدة من أي وقت مضى."
ومن هنا يتولّد السؤال الذي يدفع توركل إلى الكتابة والبحث:
هل ما زال الإنسان قادراً على أن يشعر بالآخر؟
أم أن "الآخر" أصبح مجرد صورة عابرة فوق شاشة مضيئة؟
يمتاز الكتاب بقوة الملاحظة، وبالطابع الحِجاجي الذي يجمع بين علم النفس والتقنية والسوسيولوجيا. كما يتميّز بلغته التي لا تنجرف إلى التنظير البارد، بل تحافظ على حرارة التجربة الإنسانية، وتذكّر القارئ بأنّ التكنولوجيا ليست مجرد أدوات، بل طرق جديدة للعيش.
وفي النهاية، يُفهم أن توركل لا تريد من القارئ أن يخاف التكنولوجيا، بل أن يتوقف قليلاً ليفكّر:
هل هذا العالم المتصل فعلاً يجعلنا قريبين من أنفسنا؟
أم أن الاتصال الدائم مجرد قناع يخفي هشاشة عميقة لا نريد الاعتراف بها؟








0 التعليقات:
إرسال تعليق