الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 11، 2025

المعرفة القَبْلية والبعدية: جدل فلسفي بين العقل والتجربة: عبده حقي


منذ بدايات الفلسفة الحديثة، شغلت مسألة العلاقة بين العقل والتجربة مكانة مركزية في النقاشات حول طبيعة المعرفة الإنسانية. وقد صاغ الفلاسفة هذه الثنائية من خلال مفهومي المعرفة القبلية (a priori) والمعرفة البعدية  (a posteriori)، باعتبارهما مفتاحين لفهم كيفية تبرير الأحكام وإثبات صدقها.

المعرفة القبلية هي تلك التي يمكن الحصول عليها أو تبريرها بمعزل عن التجربة الحسية. فهي ليست وليدة الملاحظة أو الإدراك المباشر للعالم الخارجي، بل تقوم على الاستدلال العقلي أو على مبادئ أولية بديهية. في هذا السياق، يمكن القول إن بعض المفاهيم الفلسفية أو الرياضية تعدّ قبلية، مثل مبدأ عدم التناقض في المنطق، أو المعادلات الرياضية الأساسية التي يمكن للإنسان أن يستنبطها من خلال العقل وحده.

وقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أن هذه المعرفة قد تكون فطرية أو متأصلة في العقل البشري، بينما اعتبر آخرون أنها مكتسبة من خلال التفكير المحض دون وساطة التجربة.

في المقابل، تشير المعرفة البعدية إلى كل معرفة لا يمكن الوصول إليها إلا عبر التجربة والخبرة الحسية. فهي قائمة على الملاحظة والتجريب والاحتكاك المباشر بالواقع. مثال ذلك: القول بأن "الماء يغلي عند درجة مائة مئوية" أو أن "جورج الخامس حكم بريطانيا من 1910 إلى 1936"، فهذه حقائق لا يمكن معرفتها إلا عبر التجربة أو من خلال روايات تاريخية مستندة إلى الشواهد.

تنبع أهمية التمييز بين القبلي والبعدي من كونهما يشكلان محورًا أساسيًا في نظرية المعرفة، حيث يرتبطان بمسألة التبرير أو المشروعية المعرفية. فالمعرفة القبلية توحي باليقين العقلي المستقل عن التجربة، بينما المعرفة البعدية ترتبط بشرطية الواقع وإمكان الخطأ أو التصحيح المستمر عبر التجربة.

وقد ركّز الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط على هذه الثنائية، رابطًا بين المعرفة القبلية من جهة، والضرورة والكلية من جهة أخرى. وفي المقابل، جاء فلاسفة معاصرون مثل سول كريبكه ليطرحوا إشكاليات جديدة، مثل إمكان وجود قضايا ضرورية تُعرف بالتجربة، كالحقيقة العلمية "الماء هو H₂O".

أمثلة مقارنة

المعرفة القبلية: "إذا كان المربع له أربعة أضلاع، فهو ليس مثلثًا."

المعرفة البعدية: "الأشجار في هذا البستان تحمل ثمارًا هذا العام."

هذا التمييز يُظهر أن بعض الحقائق يمكن إدراكها بالعقل المحض، بينما أخرى لا سبيل إليها إلا من خلال التجربة.

إشكالات معاصرة

لا تزال هذه الثنائية تثير الجدل في الفلسفة المعاصرة. فبينما يؤكد البعض على طابعها الحاسم في تنظيم النظرية المعرفية، يرى آخرون أن الحدود بين القبلي والبعدي قد تكون قابلة للاختراق. إذ يمكن أن تكون بعض المعارف قبلية من حيث المبدأ، لكنها قابلة للدحض أو المراجعة إذا تعارضت مع التجربة. وهذا يفتح الباب أمام رؤية أكثر مرونة تجمع بين ضرورات العقل وشروط الواقع.

خاتمة

إن ثنائية المعرفة القبلية والبعدية ليست مجرد تصنيف تقني داخل نظرية المعرفة، بل هي في جوهرها جدل فلسفي حول مصادر الحقيقة الإنسانية: هل تستمد من العقل بوصفه مرجعًا مطلقًا؟ أم من التجربة باعتبارها معيارًا واقعيًا لا غنى عنه؟ وبين هذين القطبين، تشكلت مدارس فلسفية كبرى، من العقلانية إلى التجريبية، ولا تزال آثار هذا الجدل قائمة في الفلسفة والعلم والرياضيات وحتى الأخلاق.

0 التعليقات: