حين أفكر في معنى الفن، أستحضر كلمات نيتشه: "لدينا الفن كي لا نموت من الحقيقة." هذه العبارة وحدها تكفي لتعيد ترتيب علاقتي بالحياة. فالحقيقة حين تُقدَّم عارية قد تتحوّل إلى عبء لا يُطاق، بينما الفن يجعلها قابلة للسكنى، قابلة لأن نعيش معها لا ضدها. هنا أدرك أنّ الفن ليس ترفًا ولا كماليات، بل ضرورة وجودية، لأنه يمدّنا بما يجعلنا قادرين على احتمال ثقل العالم.
لقد جرّبت مرارًا أن أستمع إلى خطب وعظية، فشعرت أنني محاصر بمفردات التحريم والواجب. أما عندما أقرأ قصيدة أو أستمع إلى قطعة موسيقية، فإنني أشعر بانفتاح داخلي، كما لو أنني أتحرّر من القيود وأتنفس هواءً أوسع. الفن يفتح أمامي أبوابًا جديدة للمعنى، بينما يظل الخطاب المعياري يعيد إنتاج حدود الماضي.
أرى أنّ الشيخ والفنان
ليسا مجرد شخصين متقابلين، بل رمزين لفلسفتين متناقضتين:
الشيخ يمثل الذاكرة،
يعيدنا إلى ما كان، يذكّرنا بالمحظورات ويشدّنا إلى نصوص محفوظة.
الفنان يمثل الخيال،
يفتحنا على ما سيكون، يبتكر صورًا لم نرها من قبل ويجرّب طرقًا جديدة في التفكير والشعور.
كان هايدغر يعتبر أنّ
الفن "يُظهر الحقيقة" أكثر مما تفعل الفلسفة ذاتها، لأنه يتيح لنا أن نرى
العالم من زاوية لم نعهدها. في هذا السياق، الفنان ليس مجرد مُزيّن للحياة، بل كاشف
لجوهرها. بينما الشيخ يكرّر النصوص، لكن الفنان يخلق نصًا لم يكن موجودًا، يكشف عن
"الوجود" كما لو كان يُرى لأول مرة.
الحرية والإبداع: دروس
سارتر
حين أتأمل المسألة
من زاوية سارتر، أجد أن الفنان هو التجسيد الأسمى للحرية. فالإنسان عنده "محكوم
بالحرية"، أي أنه لا يستطيع أن يتهرّب من مسؤوليته في أن يخلق ذاته عبر أفعاله.
والفنان، أكثر من غيره، يغامر في هذه الحرية: يكتب، يرسم، يغني، حتى لو اصطدم بالمجتمع
والسلطات. في حين أن خطاب الوصاية يسعى إلى تقليص دائرة الحرية باسم الامتثال للجماعة.
الفنان بهذا المعنى
ليس مهمًا فقط، بل هو ضروري كي يذكّرنا بأن الإنسان لا يُختزل في الطاعة، بل يكتمل
بالخلق والمجازفة.
الحضارات والفن
عندما أنظر إلى التاريخ،
أجد أنّ كل حضارة عظيمة لم تخلُ من فنون كبيرة. لم تُبنَ أثينا بخطب الكهنة وحدها،
بل بالتراجيديات التي خلّدها سوفوكليس وأيسخيلوس. ولم تخلُ الحضارة الإسلامية من الشعر
والموسيقى والفنون التشكيلية التي شكّلت وجدانها بقدر ما فعل الفقهاء. الحضارات التي
حاولت أن تخنق الفن انتهت إلى ضمور الروح، حتى وإن بقيت أجسادها قائمة.
الفنان يمنح الذاكرة
نفسها بعدًا آخر. هو لا يلغي الماضي، بل يعيد صياغته في صور جديدة، فيحوّله من ثِقَل
إلى إمكان. الفن بهذا المعنى لا يناقض الدين، بل يحرّره من الجمود، يضخ فيه حياة جديدة
تجعله معاصرًا باستمرار.
بين الوصاية والخيال
حين أقول في نفسي
"الفنان أهم من الشيخ"، فأنا لا أضع ميزانًا حسابيًا، بل أعبّر عن قناعة
فلسفية: إنّ الخيال أهم من الوصاية، الحرية أهم من الامتثال، الإبداع أهم من التكرار.
الشيخ يحافظ على الهوية لكنه يجمّدها، بينما الفنان يمنحها القدرة على التجدّد. الشيخ
يضع حدودًا، والفنان يوسّع أفقًا.
هايدغر، نيتشه، سارتر…
كلهم أشاروا بشكل أو بآخر إلى أنّ الفن هو التعبير الأصدق عن الوجود الحر. وأنا أجدني
مقتنعًا بأنّ غياب الفن يعني غياب المستقبل، لأننا عندها سنبقى أسرى الماضي بلا أفق
جديد.
خاتمة: أي مستقبل نريد؟
في النهاية، يظل السؤال
الجوهري بالنسبة لي: أي مستقبل نريد؟ مستقبل الذاكرة المغلقة التي تكتفي بترديد نفسها،
أم مستقبل الخيال المفتوح الذي يجرؤ على ابتكار عوالم جديدة؟
أنا أميل إلى الثاني،
لأنني أرى في الفن وعدًا بالحرية، وعدًا بأنّ الإنسان يمكنه دائمًا أن يتجاوز نفسه.
لذلك أجدني متمسكًا بهذه العبارة: الفنان أهم من 100 شيخ، ليس لأنني أقلّل من قيمة
الروح والدين، بل لأنني أؤمن بأنّ الحياة بلا فن تفقد بُعدها الأجمل، وتتحول إلى طاعة
ميكانيكية بلا معنى.
0 التعليقات:
إرسال تعليق