الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، سبتمبر 13، 2025

الفلسفة الأمريكية للبرية: من أرض مجهولة إلى فضاء للروح: عبده حقي


لم يكن مفهوم "البرية" في الفكر الأمريكي مجرد توصيف جغرافي لمناطق طبيعية بكر بعيدة عن العمران، بل تحوّل عبر القرون إلى رمز ثقافي وفلسفي عميق، وإلى أحد أعمدة الهوية الأمريكية ومجالاً لصياغة تصورات جديدة عن علاقة الإنسان بالطبيعة. وقد لعبت التشريعات، والفكر الفلسفي، والحركات الأدبية دوراً أساسياً في ترسيخ هذا التصور، ابتداءً من مرحلة الاستعمار والحدود، وصولاً إلى النقاشات المعاصرة حول معنى البرية في عالم متحوّل.

مع بدايات الاستيطان الأوروبي في أمريكا، كان يُنظر إلى البرية باعتبارها فضاءً عدائياً، "أرضاً قاحلة" مليئة بالأخطار وسكانها "المتوحشون". هذا التصور متجذر في خلفية دينية بروتستانتية رأت في البرية امتحاناً إلهياً يجب إخضاعه للتمدن والزراعة. لكن سرعان ما تغيّر هذا المنظور مع تقدّم حركة الاستيطان وتلاشي الحدود، إذ بدأ الخيال الأمريكي يتلمس في البرية جمالاً وهيبةً ورمزاً للحرية والانعتاق من صخب الحياة الصناعية.

مع منتصف القرن التاسع عشر، شكّل التيار الرومانسي والتجربة الترانسندنتالية منعطفاً حاسماً. فالفيلسوفان رالف والدو إمرسون وهنري ديفيد ثورو أعادا تعريف البرية باعتبارها مدرسة روحية وجمالية، ومصدراً للتجدد الأخلاقي والإنساني. وقد صارت أعمال ثورو، خصوصاً "والدن"، بمثابة نصوص تأسيسية لوعي جديد يرى في "الوحشي" نقيضاً لابتذال الحياة المادية، وفي الطبيعة ملاذاً وملهمةً للفكر والفن.

هذا التحول أسس لجدل طويل بين أنصار "الحفاظ على البرية" الذين جسّدهم جون موير، وأنصار "الاستخدام الرشيد للموارد" الذين مثّلهم غيفورد بينشوت، ليُفتح بذلك باب النقاش بين من يرون الطبيعة قيمةً في ذاتها ومن يعتبرونها مورداً لخدمة الإنسان.

بلغ هذا الوعي ذروته مع صدور "قانون البرية" الأمريكي سنة 1964، الذي عرّف البرية بأنها "منطقة لم تمسها يد الإنسان، حيث يكون الإنسان زائراً لا مقيماً". هذا التعريف القانوني لم يكن محايداً، بل عبّر عن نزعة ثقافية عميقة تحاول حفظ ما تبقى من "الأرض الأولى" في مواجهة زحف العمران.

كما انفتح النقاش الفلسفي على أبعاد وجودية بفضل مفكرين أمثال هنري بَغبي، الذي نظر إلى التجربة في البرية كرحلة في الوعي، ورأى في الطبيعة وحشيةً أصيلة تسمح للإنسان باكتشاف معنى وجوده ومحدوديته.

غير أن الفلسفة البيئية المعاصرة لم تقف عند حدود الرومانسية أو التعريفات القانونية، بل أعادت النظر في مفهوم البرية ذاته. فبعض الفلاسفة انتقدوا تصورها كأرض "نقية" خالية من أثر البشر، معتبرين أن ذلك يخفي التاريخ الثقافي للسكان الأصليين، ويغفل إمكانية وجود "الوحشي" بدرجات متفاوتة حتى داخل المدن والمجالات المتحوّلة.

هذا النقاش الجديد أعاد الاعتبار لمفهوم "التوحش" أكثر من "البرية"، بوصفه طاقة حية قابلة للتجلي في أماكن متعددة، لا في الجبال والأنهار الكبرى فحسب.

تُظهر الفلسفة الأمريكية للبرية مساراً معقداً من التحول: من خوف استعماري قديم من الطبيعة، إلى انبهار رومانسي بجمالها، ثم إلى وعي قانوني يسعى لحمايتها، وأخيراً إلى نقد فلسفي يوسّع معناها ويضعها في سياق اجتماعي وثقافي أرحب. وهكذا، لم تعد البرية مجرد فضاء جغرافي، بل صارت مرآة تعكس علاقة الإنسان بذاته وبالعالم، وتجعل من التفكير في الطبيعة تفكيراً في المصير الإنساني برمته.

0 التعليقات: