منذ إعلان نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2021، برز خطاب رئيس الحكومة عزيز أخنوش محمولاً على وعود مركزية: استكمال بناء الدولة الاجتماعية. وهو خطابٌ لم يكن جديداً على الساحة السياسية المغربية، لكنه جاء في ظرفية خاصة، مطبوعة بأثر جائحة "كوفيد-19" التي كشفت هشاشة المنظومة الصحية والتعليمية، وأظهرت الحاجة الملحّة إلى سياسات اجتماعية أكثر شمولية وعدالة.
حين استعرض رئيس الحكومة حصيلة ولايته، وضع الأرقام في صدارة المشهد: ملايين المستفيدين من التأمين الإجباري عن المرض، مليارات الدراهم المرصودة لدعم الحماية الاجتماعية، مئات المستشفيات والمراكز الصحية التي تم تجهيزها أو إعادة هيكلتها. الأرقام بهذا الصدد تعبر عن أداة خطابية تهدف إلى إقناع الرأي العام بأن الحكومة تشتغل بجدية وأن الإصلاحات تتحقق على الأرض.
غير أن الأرقام، مهما
كانت مهمة، لا تكفي وحدها. فالسؤال الذي يطرحه المتابعون هو: ما مدى استدامة هذه الإصلاحات
في ظل توازنات مالية ضاغطة؟ وهل ستتحول إلى تراكمات بنيوية أم أنها ستظل رهينة ولاية
انتخابية بعينها؟
لا يختلف اثنان على
أن المغرب شهد خلال السنوات الأخيرة دينامية غير مسبوقة في توسيع العرض الصحي، سواء
عبر بناء مستشفيات جديدة أو عبر تعميم الاستفادة من التأمين الصحي. لكن النقاش يتجاوز
البنيات إلى المضامين: جودة الخدمات، تكوين الموارد البشرية، آليات الحكامة، وضمان
المساواة بين المدن والقرى. الأمر ذاته ينطبق على التعليم؛ إذ يبقى التحدي الأكبر هو
تحسين جودة التعلمات ومحاربة الهدر المدرسي، وليس فقط تجهيز المدارس أو إدماج التكنولوجيات
الحديثة.
على المستوى الاقتصادي،
وجدت حكومة أخنوش نفسها أمام مفارقة ملحة : كيف تحافظ على التوازنات الماكرو اقتصادية
في زمن أزمات عالمية متتالية، وفي الوقت نفسه تستجيب لمطالب اجتماعية متزايدة؟ الرهان
هنا هو تشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي، وتبسيط المساطر الإدارية، ومحاربة البيروقراطية
التي ظلت عائقاً أمام النمو. بيد أن بناء اقتصاد منتج لا ينفصل عن بناء مجتمع متماسك،
وهو ما يجعل السياسات الاقتصادية والاجتماعية وجهين لعملة واحدة.
لفهم التحولات الراهنة،
لا بد من العودة إلى محطات سابقة. إن حكومة التناوب برئاسة عبد الرحمان اليوسفي أواخر
التسعينيات ركزت بالأساس على إعادة الانتقال الديمقراطي إلى سكّته، فيما بقيت القضايا
الاجتماعية في مرتبة ثانوية. لاحقاً، ومع حكومة عبد الإله بنكيران بعد 2011، اتخذت
الأولويات منحى آخر: حماية التوازنات المالية وإصلاحات بنيوية مثيرة للجدل، مثل إصلاح
صندوق المقاصة وأنظمة التقاعد، لكنها لم ترتقِ إلى مستوى "مشروع اجتماعي شامل".
في المقابل، وضعت حكومة
أخنوش "الدولة الاجتماعية" في قلب خطابها السياسي. الفارق هنا ليس فقط في
الأولويات، بل في طبيعة المرحلة؛ فالمجتمع المغربي اليوم يطالب بخدمات ملموسة، لا مجرد
وعود سياسية أو إصلاحات تقنية.
لقد شكلت مرحلة ما
بعد "الربيع العربي" 2011 منعطفاً حاسماً في علاقة الدولة بالمجتمع. فالحراك
الاجتماعي الذي شهده المغرب رفع سقف التطلعات الشعبية بشكل غير مسبوق. فالمواطن لم
يعد يكتفي بالمطالبة بإصلاحات دستورية أو سياسية، بل صار يطالب بالعدالة الاجتماعية:
تعليم عمومي بجودة عالية، مستشفى يليق بالكرامة الإنسانية، وفرص عمل للشباب.
إن هذا التحول فرض
على الحكومات المتعاقبة إعادة ترتيب أولوياتها. فإذا كانت حكومة بنكيران قد انشغلت
أكثر بالتوازنات المالية، وحكومة العثماني حاولت التوفيق بين الاستقرار السياسي والمطالب
الاجتماعية، فإن حكومة أخنوش جاءت بخطاب جديد يرفع "الاجتماعي" إلى مرتبة
المشروع السياسي المركزي، مستندة إلى دعم ملكي قوي تجسد في الورش الملكي لتعميم الحماية
الاجتماعية.
لكن، ما معنى
"الدولة الاجتماعية" في السياق المغربي؟ هل يكفي أن نضخ مليارات الدراهم
في صناديق الدعم ونعمم التأمين الصحي لنقول إننا أمام دولة اجتماعية مكتملة الأركان؟
أم أن الأمر يتطلب رؤية شمولية تجعل من العدالة في توزيع الثروات، وتكافؤ الفرص، وتعزيز
مكانة الطبقة الوسطى، أساساً لكل سياسة عمومية؟
النقاش هنا يأخذ بعداً
فكرياً أعمق، فالدولة الاجتماعية ليست مجرد إجراءات تقنية، بل هي عقد اجتماعي جديد
يقوم على إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن. وإذا كان المغرب قد خطا خطوات مهمة
في هذا الاتجاه، فإن الرهان الأكبر هو تحويل هذه الخطوات إلى منظومة متكاملة قادرة
على الصمود أمام الأزمات.
ورغم ما تحقق، لا تزال
هناك تحديات كبرى ماثلة أمام الحكومة:
التمويل المستدام لورش
الحماية الاجتماعية في ظل ضغوط مالية.
ضمان العدالة المجالية
في توزيع الخدمات بين المدن الكبرى والقرى النائية.
تحسين جودة الموارد
البشرية في قطاعي الصحة والتعليم، باعتبارهما ركيزتين أساسيتين للدولة الاجتماعية.
التوازن بين الاقتصادي
والاجتماعي، بحيث لا تطغى المقاربة المالية على المقاربة الإنسانية.
إذا كانت حصيلة حكومة
أخنوش تعكس إرادة سياسية واضحة، فإنها في الوقت نفسه تطرح سؤال الاستمرارية. فهل ستظل
هذه الإصلاحات مرتبطة بولاية انتخابية محددة؟ أم أنها ستتحول إلى سياسة دولة عابرة
للحكومات؟ هنا يكمن جوهر النقاش: بناء عقد اجتماعي جديد يُعيد الثقة بين المواطن والدولة،
ويجعل من الحقوق الاجتماعية جزءاً لا يتجزأ من المواطنة.
إن ما يعيشه المغرب
اليوم هو لحظة انتقالية بامتياز. فبين طموح الأرقام وواقعية التحديات، وبين خطاب الإصلاح
وضغط المطالب، يتحدد مستقبل الدولة الاجتماعية. وإذا كانت الحكومة قد نجحت في إطلاق
أوراش كبرى، فإن الرهان الحقيقي هو تحويل هذه الأوراش إلى مكتسبات بنيوية تعيد رسم
ملامح المغرب في العقود القادمة.
بعبارة أخرى، لسنا
فقط أمام حصيلة حكومية ظرفية، بل أمام امتحان تاريخي: هل يستطيع المغرب أن يؤسس فعلاً
لدولة اجتماعية حديثة تضع الإنسان في قلب التنمية، وتفتح الباب أمام عقد اجتماعي جديد
يضمن الكرامة والعدالة لكل مواطن؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق