الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، سبتمبر 07، 2025

فيلم عن غزة يفوز بالأسد الفضي لمهرجان البندقية : عبده حقي


لم يكن الجمهور في مهرجان البندقية السينمائي يدرك أن لحظة العرض الأول لفيلم "صوت هند رجب" ستتحول إلى شهادة إنسانية تهز الضمائر قبل أن تكون تجربة فنية. فالفيلم، الذي أخرجته التونسية كوثر بن هنية، استعاد تفاصيل تلك الليلة المريرة في غزة يوم 29 يناير 2024، حين عاشت الطفلة الفلسطينية هند رجب، ذات الخمس سنوات، ساعات من الرعب داخل سيارة عائلتها المحاصرة بالنيران. آخر ما تبقى منها هو صوتها المرتجف في مكالمات استغاثة مع الهلال الأحمر الفلسطيني، وهو الصوت الذي شكّل العمود الفقري لهذا العمل السينمائي المؤلم.

في الثالث من سبتمبر 2025، كان المسرح الكبير في فينيسيا شاهداً على واحدة من أطول لحظات التصفيق في تاريخ المهرجان: نحو أربعٍ وعشرين دقيقة وقوفاً، تخللتها دموع وانكسارات صامتة. لم يكن التصفيق مجرد تحية لفريق العمل، بل كان اعترافاً جماعياً بقدرة السينما على أن تكون ضمير العالم حين تعجز السياسة عن ذلك. هذا التفاعل العاطفي الكبير تُوّج بفوز الفيلم بجائزة الأسد الفضي (الجائزة الكبرى للجنة التحكيم)، إلى جانب باقة من الجوائز الموازية التي منحتها مؤسسات ثقافية وإنسانية كاليونسكو والصليب الأحمر.

اختارت بن هنية أن تبتعد عن الاستعراض البصري أو مشاهد الدم، لتجعل من الصوت – صوت هند تحديداً – مركز الثقل الفني والإنساني للفيلم. هكذا تحوّل العمل إلى نوع من الأرشيف السمعي للذاكرة الفلسطينية، يضع الجمهور في مواجهة مباشرة مع الهشاشة الإنسانية لطفلة محاصرة في حرب غير متكافئة. هذه المقاربة تذكرنا بالتجارب السينمائية التي جعلت من الوثيقة الصوتية مادة شعرية، كما في بعض أفلام كريس ماركر أو جان-لوك غودار، لكنها هنا أكثر فتكاً لأنها تستند إلى واقع حيّ ودموي.

لم يبق الفيلم حدثاً فلسطينياً أو عربياً صرفاً، بل تجاوز ذلك إلى فضاء العالمية. مشاركة أسماء كبرى في الإنتاج التنفيذي مثل براد بيت، خواكين فينيكس، روني مارا، وألفونسو كوارون، فتحت أمامه أبواب التوزيع الدولي وأطلقت آمالاً عريضة في أن يصل إلى شاشات أوسع. والأهم من ذلك أنّ تونس اختارته ليمثلها رسمياً في سباق جائزة الأوسكار 2026 عن فئة أفضل فيلم أجنبي. هذه الخطوة تضيف بُعداً آخر: فالقضية الفلسطينية لا تُروى فقط من الداخل، بل تتبناها لغة السينما العالمية كجزء من سردية إنسانية كونية.

إن نجاح "صوت هند رجب" لا يمكن فصله عن السياق السياسي. فالفيلم يعيد تموضع القضية الفلسطينية داخل الساحة الثقافية الدولية، من خلال الفن السابع هذه المرة. غير أن قيمته تتجاوز السياسة إلى سؤال الثقافة: كيف يمكن للفن أن يحافظ على الذاكرة الجماعية، وأن يحول الصوت الفردي – صوت طفلة – إلى أيقونة مقاومة تحفظها الأجيال المقبلة؟ بهذا المعنى، يصبح الفيلم فعلاً ثقافياً بامتياز، لأنه يحرر الذاكرة من أسر النسيان ويمنحها لغة بصرية وصوتية قادرة على السفر عبر القارات.

صوت هند رجب ليس مجرد فيلم وثائقي-درامي، بل هو نصب تذكاري سمعي بصري، يكرّس طفولة مغدورة لتبقى في وجدان العالم. لقد نجحت كوثر بن هنية في أن تجعل من السينما أداة للشهادة والاحتجاج والجمال معاً، وأن تبرهن أن الثقافة لا تقف عند حدود المتعة الفنية، بل تتحول إلى مقاومة في مواجهة محو الذاكرة. وفي زمن تتسابق فيه الأخبار والصور على إغراق المتلقي، يبقى صوت هند – رقيقاً، صادقاً، هشّاً – أقوى من أي ضجيج سياسي أو عسكري.

0 التعليقات: