لم تعد الأسئلة عن الدين تدور حول “لماذا ينتشر؟” أو “لماذا يندثر؟” بقدر ما صارت تسأل: أيّ أشكال التدين ستبقى، وأيّها سيذوب أو يعيد تشكيل نفسه؟ ذلك أنّ الدين، بما هو خبرة اجتماعية ونفسية ورمزية، لم يخرج من التاريخ ولم يتجمّد فيه؛ إنما يتكيّف مع تحوّلات المعرفة والسلطة والأخلاق، مثل كائن ثقافي مرنٍ يحفظ بذرة البقاء عبر التبدّل.
ثلاث وظائف مؤسسة للظاهرة الدينية
يمكن قراءة الظاهرة
الدينية عبر ثلاث وظائف كبرى تفسّر نشأتها واستمرارها بنسب متفاوتة:
تفسير المجهول: منذ
بدايات الوعي، قدّم الدين إجابات للأسئلة القصوى: ما قبل الحياة وما بعدها، سرّ الظواهر
الطبيعية، لغز المصير. ومع تقدم العلم تقلّص مجال “المجهول القابل للتفسير الغيبي”،
وبقي السؤال المؤجَّل عصيّاً: ماذا بعد الموت؟ هنا يستمر الدين حاملاً وعدَ المعنى
حيث تصمت الأدوات التجريبية.
الضبط الاجتماعي وصناعة
التماسك: بوصفه منظومة حوافز وعقوبات، شرّع الدين احترام الكبار، الطاعة للنظام، رعاية
الروابط، ووفّر لغة رمزية مشتركة تصنع “نحن” جمعية. في المجتمعات الحديثة حلّت الدولة
والقانون وآليات المراقبة محلّ جزء كبير من هذا الدور، لكن الدين احتفظ بقدرة عالية
على إنتاج هوية جمعية، خاصة في لحظات القلق والاهتزاز.
الدعم النفسي وتسكين
الألم: حين يفقد الإنسان عزيزاً أو يتهدده المرض أو تضيق به الحياة، يمنحه الدين عتبة
تعزية وطقوس عبور ورأسمالاً من الرجاء. وحتى مع صعود العلاج النفسي والروحانيات غير
الدينية، يبقى للدين تفوّق شعائري وقدرة على “أنسنة” العزاء بما يجعله خبرة جماعية
لا فردية فقط.
من نبوءات الزوال إلى
براغماتية التحوّل
لقد راهن بعض روّاد
علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في القرنين التاسع عشر والعشرين على أفول الدين أمام
صعود العقلانية والعلم. لكنّ مسار التاريخ انحرف عن تلك النبوءات: تراجعت سلطة الدين
الشاملة، نعم، لكنّه لم يختفِ؛ بل أعاد توزيع أدواره. يضيء هذا التحوّل منظورٌ يزاوج
بين قراءتين:
قراءة ترى الدين بنيةً
ثقافية تتكيّف: حين يتبدّل الاقتصاد والأخلاق، يباشر الدين “توفيق أوضاعه” عبر تأويلات
جديدة، ومرونات فقهية أو لاهوتية، واندماجٍ تدريجيّ مع قيم العصر (من إلغاء العبودية
إلى تحديث موقع المرأة والطفل وحقوق الفرد).
وقراءة تؤكد انتقال
التدين من “المؤسَّسة الشاملة” إلى النزعة الشخصية: تتراجع الوصاية الجمعية الصلبة،
ويعلو صوت الاختيار الفردي، فتتشظّى الكتل الكبرى إلى خرائط دقيقة من الممارسات والإيمان
اليومي، دون أن يعني ذلك ضمور الحسّ الديني نفسه.
الدولة الحديثة تعيد
هندسة المجال الديني
أمّنت الدولة الحديثة
والتعليم والطبّ والقانون والإعلام والرقمنة شبكةً كثيفة من الوظائف التي كانت تُسند
تقليدياً إلى المؤسسة الدينية أو العرف. وهكذا تراجعت الحاجة إلى الدين كقانون شامل،
لا كمورد للمعنى. وبموازاة ذلك، تصوغ الدولة سياسات للفضاء العام، تنظمها تشريعات وحقوق
وواجبات، ما يجعل الأخلاق “مدنية” المصدر في كثير من المجالات، فيما يبقى الدين مرجعاً
قيمياً وروحياً يفاوض ويواكب.
العلم يضيّق “المجهول”
ولا يلغيه
حسم العلم تفسير البرق
والرعد والأوبئة ومتوسطات العمر، ووسّع أفق العيش الكريم. لكنه لم يقدّم بديلاً لأسئلة
الغاية والخلود والكرامة وما بعد الموت. وحتى أطروحات إطالة العمر أو “هندسة” الشيخوخة
لا تغيّر من بنية السؤال، بل تعيد صياغته: إذا طال العمر فبأي معنى نعيش؟ هنا يستأنف
الدين دوره: ليس بوصفه كتابَ فيزياء، بل لغةً وجودية تمنح الوعد، وتؤطّر القيم، وتستجيب
لشوق الإنسان إلى معنى يتجاوز المعطى.
الأخلاق بين الوحي
والضمير الجمعي
تاريخياً، لم ينشئ
الدين الأخلاق من عدم؛ بل نظّم قيماً وجدت في المجتمعات السابقة، ثم راكم حولها سرديات
وقداسةً وعقوبات وثواباً. ومع تحوّل الحسّ الأخلاقي الإنساني (كرامة الجسد، رفض العنف
الأسري، حقوق الطفل والمرأة…)، يَظهر الدين في قراءاتٍ جديدة تُعيد ترتيب الأولويات،
وتؤكّد كرامة الإنسان بوصفها مركز الثقل. هذا التجاوب الأخلاقي هو سرّ قدرة الأديان
على البقاء: كلما أحسنت الإصغاء لضمير العصر، ازدادت شرعيةً وحياة.
العودة الأصولية: قراءة
في سياقها
شهدت عقود ما بعد السبعينيات
موجات أصولية في أكثر من دين. لا يمكن فهمها خارج أطر التحولات السياسية والاقتصادية
والهووية: انهيارات كبرى، بحثٌ عن يقين سريع، ردّ فعل على تغوّل السوق والعولمة وثقافة
الاستهلاك. الأصولية ليست “عودةً إلى الماضي” بقدر ما هي تحديث للماضي بأدوات الحاضر:
تنظيم، إعلام، خطاب تعبئة، وتسييس مكثّف للرموز. لكنها، مهما اشتدّت، تبقى طوراً انتقالياً؛
إذ يميل المجتمع في المدى الطويل إلى التسويات الهادئة، وإلى نماذج إيمانية أكثر تعايشاً
مع قيم الحرية والبيئة والعدالة.
مستقبل الدين: من ديانات
“عدوّة للإنسان” إلى ديانات “صديقة للإنسان”
المعيار الفاصل في
قابلية التدين للاستمرار ليس قوة السلطة، بل قدرة الدين على خدمة الإنسان: حفظ الكرامة،
رعاية الضعيف، صون البيئة، الحدّ من العنف، ومرافقة الفرد في رحلة المعنى دون مصادرة
عقله أو حياته. لذلك يلوح في الأفق شكلٌ من التدين:
أكثر شخصيةً وأقلّ
وصاية؛
أكثر بيئيةً يَعدّ
الأرض أمانة لا غنيمة؛
أكثر إنسانية يضع الكرامة
والرحمة في القلب؛
أكثر حواراً مع العلم
لا منافساً له.
بهذه السمات، يغدو
الدين بنية مواطِنة في دولة القانون، لا دولةً داخل الدولة؛ شريكاً في صياغة التماسك
والمعنى، لا بديلاً عن المؤسسات الحديثة.
خلاصة
الدين لا يندثر بوصفه
حاجةً بشريةً إلى المعنى والانتماء والتعزية، لكنه يفقد دوره حين يصرّ على احتكار الحقيقة
وفرض الوصاية على الحياة العامة. ما يستمرّ هو الدين الذي يتبدّل: يسلّم للعلم مجاله،
ويَقبل الدولة المدنية ناظماً، ويعيد قراءة نصوصه على ضوء كرامة الإنسان ومصائر الكوكب.
أما أشكال التدين التي تُمعن في معاداة الإنسان والبيئة والاختلاف، فمصيرها التقلّص
والذبول ولو بعد حين. هكذا لا يكون سؤال المستقبل: “هل ستختفي الأديان؟” بل: أيُّ أديانٍ
نستحقّ، وأيُّ إنسانٍ تريد هذه الأديان أن تُشكّل؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق