يشكّل مفهوم الأبهيدهرما، أو ما يُعرف بالأبيدهامّا في التقليد البالي، أحد الأعمدة الفكرية الأكثر عمقاً في التراث البوذي. فالمصطلح نفسه يعني "التعاليم العليا" أو "المعرفة المتقدمة"، وهو لا يقتصر على مجرد مجموعة من النصوص، بل يعكس منهجاً تحليلياً شاملاً يهدف إلى تفكيك التجربة الإنسانية والوجود إلى وحداته الأولية، وفهم كيفية تفاعلها في شبكة معقّدة من العلل والظروف.
منذ القرون الأولى بعد وفاة بوذا، بدأت المدارس البوذية في تطوير هذا النسق المعرفي الذي يسعى إلى تفسير الظواهر بطريقة دقيقة ومنهجية. وقد تبلور corpus نصي خاص بالأبهيدهرما، أبرز ما وصل إلينا منه مجموعتان: الأولى تنتمي إلى مدرسة "التيرافادا" المكتوبة بالبالـي، والثانية من مدرسة "السرفاستيفادا" التي وصلتنا عبر نصوص سنسكريتية وترجمات صينية. كل مجموعة تضم سبعة كتب رئيسية تقدّم تصنيفات وتحليلات مفصلة للظواهر الذهنية والمادية.
يقوم هذا البناء الفلسفي
على ما يُعرف بـ الدهرما أو "العناصر الأولية"، وهي وحدات وجودية لحظية تشكّل
نسيج التجربة. فالوجود ليس كيانات ثابتة أو جوهراً باقياً، بل سلسلة من الأحداث المتعاقبة
التي تنشأ وتفنى في لحظات متناهية الصغر. يتم تصنيف هذه العناصر إلى مشروطة وغير مشروطة،
ويُنظر إلى النيرفانا بوصفها الدهرما الوحيدة غير المشروطة. أما باقي الظواهر فهي خاضعة
لقوانين العلّة والشرط، تولد وتموت ضمن شبكة سببية معقدة.
وللتعامل مع هذه الإشكالية،
طور المفكرون البوذيون نظريات دقيقة حول السببية، ميّزوا فيها بين أنواع متعددة من
العلل والظروف. ففي التقليد التيرافادي نجد حديثاً عن أربعٍ وعشرين علاقة سببية، بينما
انكبّت السرفاستيفادا على تحليل العلل ضمن أنماط مختلفة مثل العلية المصاحبة أو الترابط
الوظيفي. هذه المحاولات كانت تهدف إلى تفسير كيف يمكن لظواهر آنية زائلة أن تترك أثراً
على غيرها وأن تُسهم في تكوين العالم النفسي والفيزيائي.
إحدى النقاشات الفلسفية
الكبرى داخل الأبهيدهرما تتعلق بمفهوم الطبيعة الذاتية أو الـ"سفابهافا".
هل للدّهرما جوهر ثابت يميّزه عن غيره، أم أنّ الأمر مجرد أداة تصنيفية لتسهيل الفهم؟
في هذا السياق، ميّزت السرفاستيفادا بين الوجود "الواقعي" للدهرما الذي يمتد
عبر الماضي والحاضر والمستقبل، في حين اكتفت التيرافادا بالنظر إليه كحدث حاضر عابر
لا يتعدى لحظته.
كما أولت نصوص الأبهيدهرما
عناية خاصة بآليات الإدراك والوعي. فقد حلّلت العملية الإدراكية بوصفها سلسلة من اللحظات
الذهنية المتعاقبة، حيث يلتقط كل وعي لحظةً واحدةً فقط من موضوعه، قبل أن يفسح المجال
للحظة أخرى تتلوه. هذا الفهم الميكروسكوبي للوعي فتح الباب أمام رؤى أكثر تعقيداً حول
العلاقة بين الذهن والعالم، وحول طبيعة الإدراك بين المباشر والتمثيلي.
تاريخياً، لم يبقَ
الأبهيدهرما مجرد إطار داخلي في البوذية المبكرة، بل كان منبعاً مؤثراً على مدارس كبرى
مثل اليوغاتشارا والمادهياميكا في تقاليد الماهايانا. فقد ألهمت بعض أفكاره، كتصور
"البذور الكامنة" في الذهن، نظريات لاحقة عن "مخزن الوعي" أو الوعي
الكوني العميق الذي يحفظ آثار الكارما والتجارب الماضية.
إنّ قيمة الأبهيدهرما
لا تكمن فقط في كونه جزءاً من التراث الفلسفي البوذي، بل أيضاً في قدرته على إلهام
النقاشات الفلسفية المعاصرة حول طبيعة الزمن، والوعي، والعلّية، والهوية. فهو يقدم
تصوراً عن العالم يقوم على اللحظية والتغيّر المستمر، ويرفض أي ثبات أو جوهرية. ومن
هنا، يصبح الأبهيدهرما ليس مجرد نظرية دينية، بل محاولة جذرية لإعادة صياغة علاقتنا
بالواقع، باعتباره تدفقاً مستمراً من اللحظات التي لا تعرف السكون.
0 التعليقات:
إرسال تعليق