حين نشر توماس كون كتابه بنية الثورات العلمية في مطلع ستينيات القرن العشرين، كان كمن يُلقي حجراً في بركة راكدة. لم يكن نصّاً في فلسفة العلم وحسب، بل كان أشبه بصرخة تقول: إن العلم ليس نهراً يسيل بهدوء في مجرى مستقيم، بل هو بحرٌ كثير العواصف، تتكسّر أمواجه على صخور الأزمات ثم تعود فتولد من جديد في هيئة ثورة، أو كما أحبّ أن يسمّيها: "تحوّل نموذجي".
يضعنا كون أمام مشهد شبيه بالأساطير؛ العلماء ليسوا كائنات باردة تتحرّك داخل معادلات صمّاء، بل هم أفراد يعملون تحت سقف نموذج يفرض عليهم لغةً محدّدة، أسئلة بعينها، وأدواتٍ بعينها. وما دام هذا السقف متماسكاً، يشتغل العلم في صورة "علم عادي"؛ أشبه بعمّال يحلّون الألغاز الصغيرة في كتاب ضخم لا يُشبه أن ينتهي. غير أنّ التصدّعات تظهر فجأة: ظواهر عصيّة على التفسير، نتائج متمرّدة على القواعد، علامات استفهام تكبر حتى تصبح جداراً. عندها يبدأ القلق، وتلوح الثورة.
الثورة العلمية، في عيون كون، ليست مجرّد تعديل في صفحة من كتاب، بل قلبٌ للكتاب نفسه. كأنّ اللغة تتغيّر، والمعاني تنزاح، والمفاهيم تُبعث من رمادها. من يقرأ تاريخ العلم من كوبرنيكوس إلى أينشتاين، يدرك أن كل ثورة هي انفجار رؤيوي يفتح للعلماء أفقاً جديداً، ويترك النماذج السابقة وقد صارت بقايا في متحف الزمن.
غير أن هذا التصوير المهيب لم يسلم من النقد. فهناك من رآه يجرّ العلم نحو النسبية، حيث لا يعود "الحق" سوى ظلٍّ يتبدّل بحسب النموذج الذي نختاره. وهناك من اعتبر أن كون أعطى للعوامل الاجتماعية والنفسية وزناً مبالغاً فيه، حتى خُيّل أن قَبول نظرية جديدة ليس ثمرة البرهان والتجربة بقدر ما هو نتيجة اقتناع جيل أو سطوة مؤسسة. لكن رغم ذلك، يظلّ الكتاب نصّاً مزلزلاً، لا يترك قارئه في المكان نفسه الذي كان فيه قبل القراءة.
إن جمال بنية الثورات العلمية يكمن في قدرته على جعلنا نرى تاريخ العلم بعيون مختلفة؛ لا كخط مستقيم يعلو خطوة بعد خطوة، بل كسلسلة من الانكسارات والانبعاثات، كأغنية تتردّد بين الصمت والانفجار، بين التراكم والانقطاع. لقد قدّم لنا كون استعارة كبرى لفهم الفكر الإنساني: أن الحقيقة ليست دوماً مساراً مستقيماً، بل هي دروب متعرّجة، يتخللها السقوط والقيام، الهدم والبناء.
من هنا تأتي قيمة الكتاب الأدبية قبل الفلسفية. فهو يروي، على طريقته، حكاية الإنسان في بحثه عن المعنى: كيف يقيم بيتاً من المفاهيم، ثم يهدمه حين تداهمه العاصفة، ليبني من الركام بيتاً آخر أكثر رحابة. وربما لهذا السبب تجاوز الكتاب حدود فلسفة العلم ليؤثّر في السياسة والثقافة والفكر الاجتماعي؛ لأن كل مجتمع، مثل كل علم، يعرف لحظاته العادية وثوراته، يعرف أزماته وانبجاساته.
في النهاية، يمكن أن نقول إن قراءة توماس كون أشبه بعبور مرآة: نرى فيها لا العلم وحده، بل صورتنا نحن كبشر، في سعينا الدائم إلى القبض على الحقيقة، ولو عبر سلسلة لا تنتهي من الثورات.
0 التعليقات:
إرسال تعليق