الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الجمعة، أكتوبر 03، 2025

رواية البيانات: السرد الذي تولّده الخوارزميات: ترجمة عبده حقي


المقدمة : 
شهدت العقود الأخيرة ثورة رقمية غير مسبوقة جعلت من الخوارزميات قوةً خفية تتحكم في تفاصيل حياتنا اليومية: من اقتراح الأغاني على منصات الموسيقى إلى تحديد أولويات الأخبار على شبكات التواصل الاجتماعي. هذه الثورة لم تقتصر على الاقتصاد والسياسة، بل طالت أيضًا الأدب والسرد. فقد بدأنا نسمع عن الرواية المدفوعة بالبيانات

 (The Data-Driven Novel)، وهي صيغة جديدة للأدب يتولّد فيها النص السردي من خلال خوارزميات تعالج قواعد بيانات ضخمة تحتوي على ملايين النصوص والقصص والقراءات. هنا يتجاوز الأدب فكرة الإبداع الشخصي لينفتح على فضاء جماعي، حيث تصبح الخوارزميات كاتبًا آخر، أو على الأقل "مشاركًا" في صناعة الحكاية.

هذا التحول يثير أسئلة عميقة: هل النصوص المولدة آليًا يمكن اعتبارها أدبًا بالمعنى الجمالي والإنساني؟ هل تتحول الخوارزميات إلى أداة لتوسيع الخيال الجمعي أم إلى وسيلة لإعادة إنتاج رغبات السوق؟ وهل يظل الكاتب التقليدي ضروريًا في هذا السياق، أم أن دوره سينحصر في "تنسيق" البيانات؟

أولاً: جذور الأدب الرقمي وتحوّلاته

لم يظهر مفهوم "الرواية المدفوعة بالبيانات" من فراغ، بل هو امتداد لمسار طويل من التفاعل بين الأدب والتكنولوجيا. منذ سبعينيات القرن العشرين، ظهرت أولى التجارب في الأدب الإلكتروني (Electronic Literature)، حيث استُخدمت الحواسيب لإنتاج نصوص تفاعلية. وقد وثّقت كاثرين هايلز (N. Katherine Hayles) هذه التجارب في كتابها Electronic Literature: New Horizons for the Literary باعتبارها انتقالًا من النصوص الورقية إلى فضاءات رقمية جديدة1

كما أن أعمال ماثيو كيرشنباوم (Mechanisms) أوضحت أن النص الرقمي ليس مجرد وسيط تقني، بل له "مادية خاصة" تختلف عن مادية الورق والحبر2

. هذه الخلفية النظرية تفتح الطريق لفهم "الرواية الخوارزمية"، إذ لا تعني فقط إنتاج نصوص عبر برامج، بل بناء منظومة سردية قائمة على معالجة البيانات بشكل إحصائي وخوارزمي.

ثانياً: الخوارزمية ككاتب جديد

الخوارزميات لا تكتب بالطريقة التي نكتب بها نحن البشر، لكنها "تحاكي" أنماطنا. فهي تجمع كميات هائلة من النصوص، وتبحث عن القواسم المشتركة، ثم تولّد روايات جديدة استنادًا إلى تلك القوالب. هنا يبرز تشبيه مثير: الخوارزمية كـ"عازف بيانو" يكرر مقطوعات مأخوذة من أرشيف عالمي ضخم، لكنها قادرة أحيانًا على الارتجال، أي على توليد أنماط لم تُكتب من قبل.

تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل GPT-4 وGPT-5 أو أنظمة كتابة القصص القصيرة (Story Generation Systems)  تظهربوضوح هذه الإمكانات. ففي عام 2023، نشرت صحيفة ذي غارديان تقريرًا عن دار نشر بريطانية استخدمت تحليلات بيانات قراء منصتها الرقمية لتوليد رواية تستجيب مباشرةً لتفضيلات الجمهور، بما في ذلك نوع الشخصيات والحبكة وحتى النهاية3

لكن السؤال: هل هذه النصوص مجرد "محاكاة"؟ أم أنها تحمل بذور إبداع حقيقي؟ بعض النقاد يصفونها بأنها أشبه بـ"نصوص مُعلّبة" تفصلها عن الأدب تلك الشرارة الإنسانية غير القابلة للبرمجة.

ثالثاً: الرواية كمرآة للبيانات الجماعية

رغم المخاوف، فإن للرواية المدفوعة بالبيانات جانبًا إيجابيًا. فهي قادرة على أن تتحول إلى "مرآة جماعية" تعكس آلاف التجارب الإنسانية. تخيّل رواية تُكتب من خلال ملايين المراجعات على غودريدز أو التعليقات على شبكات التواصل حول قضايا كبرى مثل الهجرة أو العدالة أو الهوية. في هذه الحالة، لا يعود النص صوت كاتب واحد بل يصبح نصًا جماعيًا تتداخل فيه أصوات متعددة.

هذا يتوافق مع ما أشار إليه بيير ليفي في كتابه L’intelligence collective حيث يرى أن المعرفة في العصر الرقمي تتشكل من "ذكاء جماعي" موزّع عبر الشبكات4

. الرواية الخوارزمية قد تكون شكلًا أدبيًا جديدًا لهذا الذكاء، حيث يصبح الأدب أرشيفًا للذاكرة الجمعية في عصر البيانات الضخمة.

رابعاً: البُعد الفلسفي والجمالي

إن دخول الخوارزميات إلى حقل الأدب يفتح أسئلة فلسفية حول ماهية الأدب ذاته. هل الأدب مرتبط بالذات الإنسانية حصراً، أم يمكن أن يُنتَج عبر عمليات حسابية؟

الفيلسوفة شوشانا زوبوف في كتابها The Age of Surveillance Capitalism تحذر من خطورة اختزال الإبداع في بيانات، لأن ذلك قد يحوّل الأدب إلى منتج تجاري يخضع لطلب السوق أكثر من كونه تجربة إنسانية متفردة5

. في المقابل، يرى البعض أن الذكاء الاصطناعي يمنح الأدب فرصة للانفتاح على أنماط سردية لم يكن العقل الفردي ليستوعبها.

وهنا نستحضر بورخيس في قصة "مكتبة بابل" التي تصور مكتبة لانهائية تحوي جميع النصوص الممكنة. الخوارزميات، بقدرتها على معالجة مليارات التركيبات النصية، تبدو أقرب إلى تجسيد عملي لتلك المكتبة المتخيلة. غير أن المكتبة البورخيسية كانت كابوسًا بقدر ما كانت حلمًا: فهي تجعل المعنى يتوه في بحر من الاحتمالات.

خامساً: دور الكاتب في العصر الخوارزمي

هل يعني كل ما سبق أن دور الكاتب قد انتهى؟ الجواب معقّد. فالكاتب التقليدي لن يختفي، لكنه سيغيّر موقعه. لم يعد هو "المُنتِج المطلق" للنص، بل أصبح "المصمم" الذي يوجّه تدفق البيانات ويضبط الخوارزميات ويحدد سياقها. يشبه ذلك دور المخرج السينمائي أمام فريق تقني ضخم: ليس هو من يقوم بكل شيء، لكنه من يمنح المشروع رؤيته ومغزاه.

يمكن القول إن الكاتب في زمن الرواية المدفوعة بالبيانات يتحول من "مؤلف" إلى "مهندس سردي". إنه يختار قواعد البيانات، يضع شروط التوليد، ثم يراجع النتائج ويعيد تحريرها. وبهذا المعنى، يظل الأدب قائمًا على التعاون بين الإنسان والآلة، لا على الاستبدال الكامل.

الخاتمة: بين المخاطر والآفاق

الرواية الخوارزمية ليست بديلًا للأدب الكلاسيكي، بل هي مختبر جديد للتجريب. فهي تحمل مخاطر تسليع النصوص وفقدان البعد الإنساني، لكنها أيضًا تفتح آفاقًا غير مسبوقة لتوسيع الخيال الجمعي. الأدب هنا يصبح ساحة للتفاوض بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي، بين الفرد والبيانات، بين الماضي المكتوب والذاكرة الرقمية.

إن المستقبل قد يشهد ولادة مدرسة أدبية جديدة، قد تُسمى "الأدب الخوارزمي"، لا تُلغي الأدب الإنساني، بل تُعيد تعريفه. وسيبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن أمام "نهاية الأدب" كما عرفناه، أم أمام بدايته الجديدة؟

الهوامش والمراجع

N. Katherine Hayles, Electronic Literature: New Horizons for the Literary, University of Notre Dame Press, 2008.

Matthew Kirschenbaum, Mechanisms: New Media and the Forensic Imagination, MIT Press, 2008.

The Guardian, "AI Writes a Novel Based on Reader Data," April 2023.

Pierre Lévy, L’intelligence collective: Pour une anthropologie du cyberspace, La Découverte, 1997.

Shoshana Zuboff, The Age of Surveillance Capitalism, PublicAffairs, 2019.

0 التعليقات: