يُعدّ مصطلح «الجماليات» بالمعنى الحديث غريباً عن الفلسفة القديمة، إذ لم يكن الإغريق ولا الرومان يعرفون هذا التخصص بوصفه علماً مستقلاً. غير أن نصوصهم تحمل ثراءً هائلاً من الأفكار التي أرست أسس التفكير الجمالي، حيث كانت مفاهيم مثل τὸ καλόν (to kalon) تتراوح دلالتها بين الجميل والملائم والجدير أخلاقياً. ومن هنا، فإن البحث في «الجماليات القديمة» ليس إلا محاولة لإعادة تركيب شبكة مفاهيمية كانت متداخلة بين الفلسفة والأخلاق والسياسة والفنون.
مدارس الجمال في الفكر
القديم
تجمع المصادر الكلاسيكية
على ثلاث مقاربات كبرى لتعريف الجميل:
النِّسْبة والتناسب:
آمن الفيثاغوريون بأن سر الجمال يكمن في الانسجام العددي والتناسب الرياضي. هذا التصور
وجد صداه عند أفلاطون وأرسطو، كما اعتمده الرواقيون، فالجمال بالنسبة إليهم هو انتظام
مقاييس الأجزاء وانسجامها.
الوظيفة أو الكفاية:
بحسب هذا التصور، الشيء الجميل هو ما ينجز وظيفته على الوجه الأمثل. وقد جسّد سقراط
في مذكرات كسينوفون هذه الفكرة حين وصف جمال الدرع بقدرته على الحماية. كذلك تبنى أرسطو
والرواقيون هذه الرؤية حين ربطوا الجمال بتمام الغاية.
المثال أو الصورة المثالية:
عند أفلاطون، الجمال الحسي ليس إلا مشاركة في «صورة الجمال» الأزلية. أما أفلوطين،
فقد تجاوز فكرة التناسب ليؤكد أن الجمال ينبع من انطباع العقل الكلي (الـNous) في المادة، فحتى الوحدة البسيطة قد تكون جميلة
لأنها تحمل أثراً عقلياً لا يُختزل في أجزاء.
الميميسيس والفن عند
الفلاسفة
من أبرز المفاهيم التي
صاغها الفكر القديم مفهوم الميميسيس (المحاكاة). فبينما رأى أفلاطون أن الفن مجرد تقليد
لصور الحس التي هي نفسها تقليد للمُثل، منح أرسطو للفن قيمة معرفية، إذ إن المحاكاة
تمكننا من رؤية الممكن والمحتمل لا مجرد الموجود.
أما النقد، فقد تباينت
مواقفه: أفلاطون اتهم الفن بالإيهام والخداع، والإبيقوريون حذّروا من سلطة الشعر في
إثارة الخوف والأوهام، بينما منح أرسطو للتراجيديا وظيفة تربوية عبر مفهوم التطهير
(الكاثارسيس)، وإن ظل هذا المفهوم غامضاً ومثار جدل حتى اليوم.
السامي والرفعة
مع القرن الأول الميلادي
ظهر تصور جديد على يد لونجينوس في كتابه «عن السامي»، حيث لم يعد الجمال مجرد تناسب
أو غاية، بل صار تجربة وجدانية ترتفع بالإنسان إلى ما فوق المألوف. السامي هنا ينبع
من عظمة الفكرة، قوة العاطفة، وسمو التعبير، بما يتجاوز حدود القياس العقلاني.
بين الأمس واليوم
تكشف هذه الرؤى عن
شبكة غنية من التصورات التي ما تزال تثير الجدل في الفكر المعاصر. فالتناسب يذكّرنا
بالانسجام الرياضي في العمارة الحديثة، والوظيفة تعود اليوم في نظرية التصميم التي
تمجّد ملاءمة الشكل للغرض، أما فكرة المثال الأفلاطوني فتظل تلهم الفلاسفة والفنانين
في بحثهم عن الجمال المطلق. كذلك، لا تزال مفاهيم مثل الكاثارسيس والسامي حاضرة في
النقد الأدبي والسينمائي المعاصر، بوصفها مفاتيح لفهم أثر الفن في النفس.
خاتمة
إن الجماليات القديمة
لم تكن مجرد تأملات في الفن، بل كانت جزءاً من مشروع فلسفي يربط بين الحقيقة والخير
والجمال. وبينما قد تبدو هذه المقاربات متباينة، إلا أنها تشترك في اعتبار الجمال قوة
فاعلة في تهذيب الروح وتنظيم العالم. وهكذا، فإن الحوار مع أفلاطون وأرسطو وأفلوطين
يظل ضرورياً لا لفهم الماضي وحسب، بل لاستنطاق الحاضر وبناء رؤى جديدة للجمال في زمننا
الرقمي
0 التعليقات:
إرسال تعليق