الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، أكتوبر 02، 2025

الفعل والإدراك: نحو فلسفة تقوم على الممارسة الحيّة: ترجمة عبده حقي


لم يعد الإدراك في الفلسفة المعاصرة يُختزل في صورة عملية سلبية يتلقى فيها العقل انطباعات حسية جاهزة. بل بات يُنظر إليه باعتباره فعلًا حيًا يتجسد عبر علاقة متبادلة بين الجسد والعالم. وهنا تبرز النظريات القائمة على الفعل

(Action-based theories of perception)  التي تقترح أن فهمنا للعالم الحسي لا يتحقق بمجرد استقبال البيانات البصرية أو السمعية، وإنما عبر أنماط من التفاعل الحركي والإمكانات العملية التي تتيحها أجسادنا داخل بيئة مادية واجتماعية.

هذه المقاربة، التي وجدت جذورها في الفلسفة الظاهراتية عند ميرلوبونتي، وأيضًا في بعض تيارات علم النفس الإدراكي وعلم الأعصاب، تمثل قطيعة مع التصورات الكلاسيكية التي جعلت من الإدراك مجرد "نسخة عقلية" للعالم الخارجي.

من الإدراك السلبي إلى الإدراك المتجسد

وفق الفلسفة الديكارتية، كان الإدراك يُفهم في ضوء الثنائية بين الذات العارفة والعالم الموضوعي: العقل يتلقى الصور، ثم يعالجها ويكوّن عنها أحكامًا. غير أنّ هذا النموذج أُنتقد بشدة، خاصة مع بروز أفكار ترى أن الجسد ليس مجرد وسيط، بل هو شرط أساسي في فعل الإدراك.

فعلى سبيل المثال، لا يرى الإنسان الكرسي فقط كموضوع هندسي بأبعاد معينة، بل يراه من منظور إمكانية الجلوس عليه، أي من خلال إمكانات الفعل التي يوفرها (affordances) كما وصفها عالم النفس جيمس غيبسون. وهكذا يتحول الإدراك إلى شبكة من العلاقات العملية التي تنشأ بين الكائن وبيئته.

الإدراك بوصفه قدرة على الفعل

تؤكد النظريات القائمة على الفعل أنّ امتلاك الكائن الحي لإمكانات حركية محددة هو ما يفسر طبيعة خبراته الإدراكية. فإذا كان الكفيف مثلاً يستعمل العصا لاستكشاف طريقه، فإن إدراكه للعالم يتجسد من خلال أنماط من الحركات اللمسية والسمعية، وليس من خلال الصور البصرية.

ويذهب بعض الفلاسفة المعاصرين، مثل ألفا نويه (Alva Noë)، إلى أن الإدراك هو نوع من التمرس أو المعرفة العملية: فأن تدرك يعني أن تعرف كيف تتفاعل مع ما يظهر أمامك، أي أن تمتلك "قواعد الفعل" التي تنظّم استجابتك.

البعد الظاهراتي والمعرفي

هذه الرؤية لا تلغي دور الدماغ أو المعالجة العصبية، لكنها تعيد توجيه الانتباه نحو البعد الظاهراتي (phenomenology) أي التجربة كما تُعاش فعليًا. فعلى خلاف النظريات التمثيلية التي ترى الإدراك كخريطة ذهنية، ترى هذه المقاربة أن الوعي يتشكل في الممارسة الحيّة ذاتها.

كما أنّها تتقاطع مع أبحاث معاصرة في الروبوتيك والذكاء الاصطناعي، حيث يتم بناء نماذج إدراكية تعتمد على قدرة الآلة على التفاعل مع بيئتها من خلال الاستشعار والحركة، وليس فقط عبر معالجة بيانات ثابتة. وهذا يفتح أسئلة فلسفية جديدة: هل يمكن الحديث عن "إدراك آلي"؟ أم أن الإدراك يظل حكرًا على الكائنات الحية المتجسدة في أجساد عضوية؟

رهانات فلسفية ومعرفية

إنّ إدخال الفعل في صميم عملية الإدراك يدفعنا إلى إعادة التفكير في قضايا فلسفية كبرى:

العلاقة بين الذات والعالم: لم يعد العالم شيئًا محايدًا يُعرض على الذات، بل فضاءً مفتوحًا للفعل والاحتمالات.

الوعي والمعرفة: الإدراك ليس انعكاسًا ذهنيًا، بل خبرة عملية تُختبر بالتجسد.

الأخلاق والسياسة: إذا كان الإدراك مشروطًا بالفعل، فإن كيفية وجودنا في العالم – بما في ذلك علاقتنا بالآخرين وبالطبيعة – تصبح جزءًا لا يتجزأ من تجربة الوعي.

خاتمة: من العين إلى اليد

يمكن القول إنّ النظريات القائمة على الفعل تقترح انتقالًا فلسفيًا من "العين" إلى "اليد"، أي من الإدراك كاستقبال سلبي للصور إلى الإدراك كقدرة حية على التفاعل والممارسة. إنها فلسفة تحرر الإنسان من وهم العقل المنعزل، لتعيده إلى جسده وبيئته، حيث العالم ليس صورةً نعاينها، بل فضاءً نمارس فيه وجودنا.

بهذا المعنى، لا يصبح الإدراك مجرد باب إلى المعرفة، بل أيضًا فعلًا وجوديًا يؤسس لحقيقة الإنسان في العالم.

0 التعليقات: