الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأحد، أكتوبر 19، 2025

محاورات بين فلاسفة ومفكرين معاصرين (15) هاراري وكانيمان : عبده حقي


في عام 2017 جمع موقع Edge.org بين اثنين من أبرز العقول التي شكلت رؤيتنا الحديثة للإنسان والعقل والاختيار: المؤرخ والفيلسوف الإسرائيلي يوفال نوح هاراري، صاحب كتاب العاقل (Sapiens) وهومو ديوس (Homo Deus)، والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد دانيال كانيمان، رائد علم الاقتصاد السلوكي ومؤلف التفكير، السريع والبطيء. دار بينهما حوار عميق حول السلوك الإنساني والذكاء الاصطناعي ومستقبل القرار، كشف عن لحظة فكرية فاصلة: حيث يلتقي علم النفس المعرفي بتاريخ المستقبل، وتتقاطع الأسئلة الفلسفية مع معادلات الخوارزميات.

الحوار لم يكن مجرد تبادل للأفكار، بل محاولة لاستشراف مصير الكائن الذي طالما اعتقد أنه سيد قراراته، فإذا به يكتشف أن "العقل" قد أصبح هو نفسه موضوعاً للمراقبة والتحليل والتحكم.

يرى كانيمان أن الإنسان كائن غير عقلاني في جوهره، وأن أغلب قراراته لا تُتخذ عبر التفكير المنطقي البطيء، بل عبر استجابات سريعة تحكمها الانفعالات والتجارب السابقة والانحيازات الإدراكية. بينما يذهب هاراري إلى أن هذه اللامنطقية البشرية هي ما يفتح الباب أمام الخوارزميات لتتفوّق على الإنسان في إدارة ذاته ومجتمعه. فبينما يتخذ البشر قراراتهم تحت وطأة الغرائز، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يرسم خرائط دقيقة لتصرفاتهم المستقبلية بناءً على بياناتهم الرقمية.

يطرح كانيمان سؤالاً محورياً: هل يمكن للآلة أن "تعرفنا" أفضل مما نعرف أنفسنا؟

ويجيب هاراري بثقة أن هذا الأمر يحدث فعلاً. فالشركات الكبرى تعرف ميول المستهلكين، وأجهزة الذكاء الاصطناعي تتنبأ بسلوك الناخبين، وحتى التطبيقات العاطفية باتت قادرة على اقتراح شركاء "أنسب" بناءً على تحليل البيانات الحيوية. وهنا، يفقد الإنسان شيئاً من جوهره: حق الخطأ، ذاك الفضاء الذي شكّل معنى الحرية والاختيار.

أما كانيمان فيحذر من أن استبدال القرار الإنساني بقرار الخوارزمية قد يبدو مغرياً في البداية، لأنه يخفف عبء التفكير والاحتمال، لكنه يخفي وراءه خطراً أكبر: تآكل المسؤولية الأخلاقية. فإذا كانت الخوارزميات هي من تتخذ القرارات، فمن سيتحمل عواقبها؟ البشر أم مطوروها؟ أم "الآلة" نفسها التي لا تعي ما تفعل؟

يعلق هاراري بأننا ندخل عصراً جديداً، ليس فيه "العقل الجمعي" بل "العقل الخوارزمي". ومع تطور الذكاء الاصطناعي، ستتراجع فكرة "الذات الواعية" لصالح نموذج جديد من الوعي الموزع عبر الشبكات والبيانات. لن يعود الإنسان يعرف نفسه من خلال التأمل أو التجربة، بل من خلال ما تقوله البيانات عنه. وهنا تتلاشى الحدود بين الحرية والمعرفة، بين القرار والإملاء، بين الإنسان والآلة.

يحاول كانيمان أن يعيد التوازن للنقاش، فيذكر بأن الحدس الإنساني لا يمكن استبداله بسهولة. فالبشر يمتلكون قدرة على التعامل مع الغموض والمعنى والنية، وهي أبعاد يصعب على الذكاء الاصطناعي تمثلها بدقة. لكن هاراري يرد بأن هذه الفجوة تضيق بسرعة، فمع ازدياد البيانات وتطور التعلم العميق، يصبح "الحدس" نفسه قابلاً للتحليل وإعادة البناء رقمياً.

من الناحية الفلسفية، يمكن القول إن هذا الحوار أعاد طرح سؤال الإنسان في القرن الحادي والعشرين:

هل نحن نعيش نهاية الإرادة الحرة كما عرفناها؟

يرى هاراري أن التاريخ يسير نحو ما يسميه "البياناتية" (Dataism)، أي الإيمان بأن القيمة العليا ليست في التجربة الإنسانية بل في تدفق البيانات. بينما يتمسك كانيمان بضرورة الحفاظ على "التجربة البشرية" بوصفها ما يمنح للخطأ والمعاناة معنى أخلاقياً وجمالياً.

من منظور علم النفس السلوكي، يمثل هذا الحوار أيضاً نقداً ذاتياً عميقاً للحداثة: تلك التي بشّرت بعقلانية الإنسان، فإذا بها تنتهي إلى كشف هشاشته المعرفية. أما من منظور فلسفة التكنولوجيا، فهو إعلان عن مرحلة ما بعد الإنسان، حيث يصبح الكائن البشري مجرد عقدة في شبكة ضخمة من المعلومات، تُوجّه رغباته وتستبق قراراته.

في الختام، يلتقي المفكران رغم اختلافهما في فكرة مركزية: العقل الإنساني ليس كما تخيّلناه. إنه مزيج من العاطفة والانحياز، ومن القدرة على التعلم والتخيل. غير أن هذا العقل، الذي صنع الآلة، يجد نفسه اليوم مهدداً بأن يتحول إلى ملحق بها.

الحوار بين هاراري وكانيمان لا يقدم إجابات بقدر ما يفتح جروحاً فكرية:

هل نترك للخوارزميات مهمة اتخاذ القرار لأنها "أذكى"؟

أم نتمسك بإنسانيتنا رغم هشاشتها لأنها تمنحنا المعنى؟

ربما تكون الإجابة كما قال كانيمان في نهاية الحديث:

"لن يختفي الإنسان، لكنه سيحتاج إلى أن يعيد تعريف نفسه لا كمركز الكون، بل ككائن يتعلم من أخطائه، حتى في مواجهة كمال الآلة."

0 التعليقات: