الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأربعاء، نوفمبر 19، 2025

ثمرات المنشورات الجديدة الغربية إعداد عبده حقي

 


هناك مواسم لا تأتي بقرار رسمي ولا بإعلان صريح، بل تصل مثل نسمة خفيفة تتسلل من نافذة مكتبة قديمة، أو مثل رائحة ورق جديد ينهض فجأة في مقهى يطل على شارع ضاج بالحياة. هكذا بدا هذا الموسم الأدبي. لا أحد قال إنه بدأ، لكن الجميع شعر بأن شيئاً ما يتحرك في الخلفية، وأن الرفوف تستعد لاستقبال دفعة من الكتب التي لا تشبه ما سبقها إلا بالقدر الذي يسمح للقراءة بأن تبقى عادة لا تشيخ.

من بين هذه الإصدارات، تتقدم مجموعة أعمال تكاد تقول إن الرواية المعاصرة ما زالت قادرة على مفاجأتنا، حتى بعد كل هذا العمر الطويل. "Tourist Season" مثلاً ليس مجرد رواية عن السفر أو عن المدن التي تتغير ألوانها بحسب الضوء، بل هو أشبه بمحاولة للقبض على تلك اللحظة التي يشعر فيها الإنسان بأنه غريب في مكان يبدو مألوفاً، أو مألوف في مكان يبدو غريباً. أما "Can't Get Enough"، فتمضي في الاتجاه نفسه تقريباً، لكنها تفعل ذلك من زاوية أخرى، زاوية العلاقة التي تتكرر حتى تبدو بلا نهاية، وكأن الكاتب يختبر مدى قدرة اللغة على تكثيف العاطفة والارتهان بها. وبين هذين العملين، تشق "Great Big Beautiful Life" طريقها كدعوة لطيفة إلى إعادة النظر في معنى الحياة حين تُفتَح من جديد أمام إنسان منهك لكنه لم يفقد رغبته في رؤية الجمال.

وفي مساحة أخرى، مساحة أشبه بمملكة لا تُرى إلا بالخيال، تأتي كتب الفانتازيا لتعيد إلى الأدب تلك اللمسة التي يعرفها كل من حلم في طفولته بعوالم لا حدود لها. "The Devils" يبدو كأنه يبحث في الشر من خلال سرده لما هو أسطوري وغامض، بينما يأخذ "The Raven Scholar" القارئ إلى عالم المعرفة السحرية، وكأن الحكمة نفسها يمكن أن تتخذ شكل طائر أسود يطير بين صفحات كتاب مخفي. ثم يظهر "King Sorrow" بوصفه نصاً يقف على حافة الأسطورة والحزن الإنساني، وكأنه يعيد صياغة قصة ملك ولد ليحمل عبئاً لا ينتهي. هذه الأعمال الثلاثة، مهما اختلفت، تتشارك في شيء واحد: البحث عن المعنى عبر ما ليس واقعاً تماماً، ولا بعيداً عنه تماماً.

وإذا تركنا الفانتازيا قليلاً وتوجهنا نحو منطقة الرومانتازي، سنجد عالماً تتشابك فيه العاطفة بالسحر، وتتشكل فيه القصص كما لو أنها تُكتب على صفحة من ضوء. في "Enchantra" يحضر السحر كامتداد للغواية العاطفية، بينما تبدو "Wild Reverence" وكأنها محاولة لاستعادة الشعور بالدهشة، تلك التي يفتقدها الناس كلما نضجت مشاعرهم أكثر مما ينبغي. وفي الطرف الآخر، تقف "Emily Wilde's Compendium of Lost Tales" كعمل ينسج حكايته من ذاكرة الأساطير، جامعاً بين دفء الحكاية القديمة وقسوة العالم الحديث.

وفي منطقة أدبية مختلفة جداً، منطقة تتسلل فيها الرهبة والظلال ويخرج منها القارئ مسكوناً بقلق ما، تظهر أعمال الرعب. "Witchcraft for Wayward Girls" لا يكتفي باستعادة موضوع السحر، بل يمنحه وجهاً اجتماعياً ونفسياً معقداً، وكأنه يضع القارئ أمام سؤال قديم ـ لماذا نخاف مما أنجبناه نحن؟ ـ بينما يذهب "Play Nice" نحو لعبة أخرى، لعبة تظهر فيها العلاقات البشرية كمرآة متصدعة تكشف ما نخفيه عادة. أما "We Love You, Bunny" فهو عمل يلتقط البراءة ليحوّلها بذكاء إلى مصدر للتوتر، كأن الكاتب يريد أن يقول إن أكثر الأشياء لطفاً قد تصبح أكثرها قسوة حين تتغير زاوية النظر.

وعندما نصل إلى كتب الذاكرة والسير الذاتية، يتغير الإيقاع تماماً. تتخلى اللغة عن الزينة وتركز على التفاصيل الصغيرة التي تصنع الإنسان. في "Finding My Way" تتبع المذكرات خطوات باحث عن ذاته، رجل يكتب كما لو أنه يمشي على طريق طويل لا يعرف نهايته. أما "Paper Girl" فتستعيد حياة تبدو هشة في ظاهرها، لكنها محمّلة بقوة التجربة، وتقدّم سرداً يُشبه دفتر مراهقة تم نسيانه ثم عاد للظهور في اللحظة المناسبة. في حين يأتي كتاب "Matriarch" ليعيد تقديم بنية العائلة من منظور الأنثى، الأم، الجذر، تلك التي تجمع التفاصيل وتمنحها معنى.

وتبرز الروايات الأولى (Debut Novels) بدورها كصوت جديد يطرق أبواب الأدب بثقة وقلق في آن. "Alchemised" تبدو كأنها تجربة في التحول، سواء تحول الشخصيات أو اللغة نفسها، بينما يحمل "The Correspondent" شيئاً من حكايات الرسائل التي تتنقل بين الأزمنة. ثم هناك "Finding Grace"، رواية تبحث عن الخلاص، أو ربما عن لحظة صفاء تتشكل بصعوبة داخل عالم معقد.

وفي خانة الخيال الأدبي، تحضر نصوص تميل إلى التأمل العميق، مثل "What We Can Know" الذي يختبر حدود المعرفة الإنسانية، ويبدو كما لو أنه كتاب يطرح الأسئلة أكثر مما يقدم الإجابات. أما "Heart the Lover" فيعيد النظر في مفهوم العاطفة من زاوية غير مألوفة، بينما يتتبع "The River Is Waiting" انسياب الحياة وتشابك مصائر الناس كما تتشابك المياه في مجرى النهر.

ويبقى الأدب التاريخي مجالاً يُصر دائماً على تقديم مفاجآته عبر إعادة قراءة الماضي بطريقة تجعل القارئ يرى العالم القديم بعيون جديدة. "Broken Country" يعيد رسم خريطة صراع مرير عاشته منطقة ما، فيما يمنح "Good Dirt" التاريخ الزراعي والاجتماعي وجهاً أكثر دفئاً، ويأتي "The Bright Years" ليضيء تلك اللحظات المنسية التي صنعت مسار أجيال كاملة.

إن ما يجمع كل هذه الإصدارات ليس نوعها ولا لغتها ولا الطريقة التي كتبت بها، بل تلك الرغبة الهادئة في أن يجد كل قارئ كتابه الخاص، الكتاب الذي سيقع في يده صدفة ويشعر بأنه يبحث عنه منذ زمن بعيد. في نهاية المطاف، ليست كمية الكتب هي المهمة، بل تلك اللحظة التي يتوقف فيها المرء عن القراءة لثانية واحدة، يغلق عينيه، ويقول لنفسه: هذا بالضبط ما احتجته الآن.


0 التعليقات: