ظلّ ملفُّ المهاجرين المغاربة في أوروبا حاضراً بقوة في الأخبار، بين تشديدٍ متزايد لقوانين الهجرة في عدد من الدول، وبرامج إدماج واحتفاء بالجيلين الثاني والثالث في دول أخرى. ويمكن رسم صورةٍ بانورامية عن أوضاع الجالية المغربية في البلدان التي ذكرتَها، كما يلي:
أوّلاً: سياق عام – جالية كبيرة تحتضغط سياسي متصاعد
تُشير الدراسات الأوروبية إلى أنّ عدد المغاربة المقيمين بالخارج يتجاوز خمسة ملايين شخص، وأنّ أكثر من أربعة أخماسهم يعيشون في أوروبا، خصوصاً في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبلجيكا وهولندا.
تقرير أوروبي حديث حول رُخص الإقامة يؤكد أيضاً أن المغاربة من بين أوائل الجنسيات الثلاث الأكثر حصولاً على تصاريح الإقامة الأولى في الاتحاد الأوروبي، ما يعني أن تدفّق الهجرة القانونية ما زال مستمراً رغم تشديد السياسات.
في المقابل، يواصل الاتحاد الأوروبي الضغط على الرباط من أجل اتفاق إعادة قبول المهاجرين المُرحَّلين، لكن المفاوضات وصلت إلى نوع من «الانسداد» السياسي، رغم الحوافز المالية المقترحة من بروكسل، وهو ما ينعكس مباشرة على أوضاع المغاربة في كافة دول الاتحاد، بما فيها ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا والدول الإسكندنافية.
ألمانيا: بين الحاجة للعمالة الماهرة وتشديد شروط اللجوء
في برلين، عرفت السياسة الألمانية تجاه المغاربة هذا العام مفارقة لافتة: من جهة، تمضي الحكومة في مسار تصنيف المغرب «بلداً آمناً» في مجال اللجوء، ما يسهّل رفض الطلبات المقدَّمة من مواطنيه ويُسرِّع إجراءات الترحيل.
ومن جهة أخرى، تُروّج ألمانيا لقانون جديد يُسهِّل استقطاب اليد العاملة الأجنبية الماهرة، ويُنشئ وكالة «العمل والبقاء» لتسريع الهجرة القانونية والاندماج المهني منذ المراحل الأولى، وهي فرصة تستهدف أيضاً الكفاءات المغربية الشابة.
في خضم هذا التوجّه، ألغى البرلمان الألماني برنامج التجنيس السريع الذي كان يتيح لبعض الأجانب الحصول على الجنسية خلال ثلاث سنوات فقط، ما اعتُبر «خبراً صادماً» لجزء من الجالية المغربية، خصوصاً من استوفوا شروط العمل والاندماج وكانوا يراهنون على هذا المسار المختصر.
إسبانيا: حضور ديمغرافي قوي وأسئلة عن القُصَّر والحدود البحرية
إسبانيا ما تزال من أبرز وجهات المغاربة في أوروبا، ليس فقط تاريخياً، بل أيضاً في الأرقام الراهنة؛ فخلال الربع الأول من 2025، سجّلت إسبانيا نمواً سكانياً تاريخياً، وكان المغاربة في المرتبة الثانية بين الجنسيات الجديدة الوافدة، مع استمرارهم كأكبر جالية أجنبية مُقيمة في البلد.
في الوقت نفسه، تُشير تقارير إسبانية إلى أن أغلب الشباب الذين دخلوا الأقاليم الشمالية كقصَّر غير مصحوبين باتوا اليوم في سوق العمل، وأنّ أغلبية هؤلاء من أصل مغربي، ما يفتح نقاشاً حاداً حول سياسات الإدماج، والسكن، والتحصيل الدراسي، والتمييز في سوق الشغل.
على مستوى الحدود، رصدت وكالة «فرونتكس» الأوروبية تحوّلاً في مسارات الهجرة البحرية باتجاه جزر الباليار، مع ازدياد الاعتماد على السواحل الجزائرية كنقطة انطلاق، بعد سنوات كان المغرب فيها نقطة العبور الأساسية نحو الأندلس. هذا التحوّل يغيّر خريطة المخاطر التي يواجهها المهاجرون من شمال إفريقيا عموماً، وبينهم عدد من المغاربة، ويزيد من تعقيد التعاون الأمني بين مدريد وعواصم المنطقة.
فرنسا: مجتمعٌ كبير تحت ضغوط سوق الشغل
في فرنسا، تواصل الجالية المغربية احتلال موقع متقدم ضمن أكبر الجاليات الأجنبية؛ فالتقديرات تشير إلى ما يناهز 900 ألف شخص من أصل مغربي، ما يجعلها ثاني أكبر جالية أجنبية في البلد.
ورغم هذا الحضور الكمي، تكشف الأرقام أن معدل البطالة في صفوف المهاجرين المغاربة والتونسيين بلغ نحو 14.7% سنة 2023، أي أكثر من ضعف المعدل المسجّل في صفوف الفرنسيين غير المهاجرين، ما يعكس استمرار فجوة الاندماج الاقتصادي والاجتماعي.
هذه المؤشرات تغذي نقاشاً واسعاً في الإعلام الفرنسي حول «ثمن» التمييز في السكن والعمل والتعليم، وحول دور أبناء الجيلين الثاني والثالث من المغاربة في المجالات الثقافية والرياضية والفنية والسياسية.
إيطاليا وبلجيكا وهولندا: بين تحويلات المال وذاكرة الهجرة وصعود اليمين
في إيطاليا، برزت دراسة حديثة تُظهر أن المهاجرين المغاربة حوّلوا إلى بلدهم الأم ما يقرب من 6.9 مليارات يورو بين 2005 و2024، ليحتلوا المرتبة الخامسة بين أكبر الجاليات المُحوِّلة للأموال هناك. هذه الأرقام تذكِّر بالدور الاقتصادي المحوري للجالية في دعم ميزان الأداءات المغربي، لكنها في الوقت نفسه تعكس نوعاً من «الاغتراب المزدوج»؛ عمل شاق وظروف صعبة في الشمال، مقابل انتظار دائم في الجنوب.
في بلجيكا، اختارت مؤسسات رسمية مغربية وبلجيكية أن تحتفي بالذاكرة المشتركة للهجرة؛ معرضٌ متنقّل بعنوان «Belgica Biladi» وكتابٌ وسلسلة بودكاستات تستعيد قصص الجيل الأول من العمال المغاربة الذين ساهموا في بناء القطاع الصناعي والخدماتي البلجيكي، مع تأكيد على دور أبنائهم اليوم في الاقتصاد والثقافة والسياسة.
أمّا في هولندا، فتعيش الجالية المغربية على إيقاع سياسة هجرة أكثر تشدّداً، ترتبط بصعود اليمين المتطرف والحضور المحوري لخيرت فيلدرز في المشهد السياسي.
القوانين الجديدة تُضيّق على طالبي اللجوء والعمل، وتطرح مقترحات حادة لتقليص أعداد المهاجرين، في سياق سياسي يتسم بتصاعد الخطاب المعادي للمسلمين والمهاجرين عموماً، وهو خطاب تقول الجالية المغربية إنه يترك أثراً مباشراً على حياتها اليومية، من المدرسة إلى الشارع وسوق الشغل.
ورغم هذا المناخ، ظهرت صور مغايرة في الأشهر الأخيرة، مثل وقفة رمزية نظّمها مغاربة أمستردام أمام القنصلية المغربية تضامناً مع حركة شبابية داخل المغرب تطالب بإصلاحات اجتماعية واقتصادية، في إشارة إلى أن الجالية لم تعد مجرد «أيادٍ عاملة في الخارج»، بل فاعلاً سياسياً ورمزياً يربط بين ضفتي المتوسط.
السويد والدنمارك: احتفالات الهوية وأسئلة القُصَّر
في السويد، كانت شوارع ستوكهولم قبل أيام مسرحاً لمسيرة احتفالية نظمتها جمعيات الجالية المغربية بمناسبة الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، في حضور مئات المشاركين ورفع للأعلام وصور الجيل الأول من المهاجرين الذين اختاروا الشمال الأوروبي وجهةً نهائية.
قبل ذلك بعدة أشهر، احتضنت إقامة المغرب في ستوكهولم إفطاراً رمضانياً متعدد الأديان، شارك فيه مسؤولون سويديون وشخصيات من مختلف الديانات، في رسالة واضحة على أن الجالية المغربية جزء من نسيج التعايش في البلد.
في المقابل، تُثار بين الحين والآخر قضية القُصَّر المغاربة غير المصحوبين في بلدان الشمال، خصوصاً في السويد حيث تشير تقارير سابقة إلى وجود مئات الأطفال المغاربة المصنّفين كلاجئين، رغم كون المغرب ليس بلداً يعيش حرباً أهلية، ما يطرح أسئلة حقوقية واجتماعية معقّدة تمتد آثارها إلى الدنمارك والنرويج وسائر دول المنطقة.
المملكة المتحدة وسويسرا واليونان وروسيا: حضور أقل عدداً لكن رمزي
في بريطانيا، تتوزع الجالية المغربية بين لندن وعدد من المدن الكبرى، وتشتغل في قطاعات المطاعم والتجارة والخدمات والتعليم العالي. في الأسابيع الأخيرة، أعلنت «الجمعية المغربية البريطانية» عن تنظيم حفل عشاء سنوي بلندن يكرّس جسور التعاون الثقافي والتعليمي بين البلدين، بينما ينشط طلبة مغاربة في جامعات بريطانية عبر جمعيات تُعنى بالهوية والاندماج.
أمّا في سويسرا واليونان وروسيا، فالحضور المغربي أقل عدداً لكنه متنامٍ في قطاعات السياحة والبناء والخدمات، وتتأثر أوضاع هؤلاء المغاربة أكثر بالقوانين العامة للهجرة في الاتحاد الأوروبي وبالتقلبات الاقتصادية والسياسية، خاصةً في ظل توتر العلاقات بين أوروبا وروسيا وتزايد الضغوط على أنظمة اللجوء في اليونان بوصفها بوابةً جنوبيةً للاتحاد. التقارير الدولية حول المهاجرين في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تُدرج المغاربة ضمن الجنسيات النشيطة في التحويلات المالية والاندماج التدريجي في أسواق العمل، وإن بدرجات متفاوتة من بلدٍ لآخر.
سياسات المغرب تجاه جاليته: من «مرحبا» إلى تعبئة الكفاءات
على الضفة الجنوبية، يواصل المغرب تحديث سياسته تجاه مواطنيه في الخارج؛ فعملية «مرحبا 2025» التي أُطلقت بتعليمات ملكية تستهدف تأمين عودة مريحة للمغاربة المقيمين بالخارج، عبر مراكز استقبال في الموانئ والمطارات الأوروبية والمغربية، وخدمات اجتماعية وطبية وإدارية على مدار الساعة.
كما يشتغل مجلس الجالية المغربية بالخارج ومؤسسة الحسن الثاني على برامج ثقافية وتكوينية، من «الجامعة الصيفية» لفائدة الشباب المغاربة في أوروبا، إلى دورات لمواكبة حاملي المشاريع، و«رود شو» لريادة الأعمال يشجع أبناء الجالية في بلدان مثل فرنسا وإيطاليا وبلجيكا على الاستثمار في المغرب، في محاولة لتحويل الهجرة من عبء اجتماعي محتمل إلى رافعة تنموية حقيقية.
بهذه الصورة، تبدو أوضاع المهاجرين المغاربة في ألمانيا وإسبانيا والدنمارك والسويد والمملكة المتحدة واليونان وإيطاليا وبلجيكا وروسيا وسويسرا وفرنسا وهولندا موزّعةً بين ثلاثة عناوين كبرى: تشديدٌ متزايد في السياسات الأوروبية تجاه الهجرة واللجوء، وحضورٌ اقتصادي واجتماعي وثقافي متجذّر للجالية، ثم محاولة مغربية رسمية لإعادة تعريف العلاقة مع أبنائها في الخارج بوصفهم شركاء في التنمية لا مجرّد «مهاجرين» على الهامش.








0 التعليقات:
إرسال تعليق