الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الأربعاء، نوفمبر 19، 2025

إصدارات عربية جديدة : إعداد عبده حقي

 


تتوالى في المشهد الثقافي العربي إصدارات لافتة تكشف، على تباعد موضوعاتها وتنوّع تجارب مؤلفيها، عن خيط ناظم واحد هو البحث عن المعنى في زمن مضطرب: معنى المكان والذاكرة، معنى الحب والعدالة، معنى الشعر في عالم متحوّل، ومعنى الصورة السينمائية في مجتمع يعيد تعريف ذاته. وفي هذا السياق يمكن قراءة مجموعة من الكتب الجديدة التي صدرت في الكويت والسعودية ومصر وسوريا، بوصفها حلقات متجاورة في سلسلة سؤال عربي طويل عن المصير والهوية.

إرث فيلكا المعلّق: حين يتحوّل المكان إلى سؤال تاريخي

يفتتح الكاتب الكويتي مظفر الراشد هذا الموسم بكتابٍ يسلّط الضوء على إرث جزيرة فيلكا، إحدى أهم البؤر التاريخية في الخليج العربي، بما تحمله من طبقات حضارية تمتد لآلاف السنين، من الحضارات المسمارية والدلمونية إلى الآثار اليونانية والمسيحية والإسلامية.

يتوقف الكتاب عند ما سمّاه المؤلف “الإرث المعلّق”، في إشارة إلى التفاوت بين القيمة الأثرية والحضارية الهائلة للجزيرة، وبين تعثّر مشاريع تطويرها وتحويلها إلى فضاء ثقافي وسياحي حيّ. يعيد الراشد تركيب حكاية فيلكا عبر وثائق تاريخية وشهادات وصور ميدانية، ويضع القارئ أمام مفارقةٍ موجعة: جزيرة مرشّحة لأن تكون ملفّاً بارزاً في سجلات التراث الإنساني العالمي، لكنها ما تزال أسيرة التأجيل الإداري والرهانات الاقتصادية المتضاربة.

بهذا المعنى لا يكتفي الكتاب بسرد تاريخ المكان، بل يتحوّل إلى مساءلة لدور السياسات الثقافية في الخليج، ولقدرة المجتمعات على صون ذاكرتها المادية واللامادية قبل فوات الأوان. إنه درس في أن التراث ليس مجرد أطلال تُزار، بل مشروع مستقبلي يحدّد شكل علاقة الأجيال الجديدة بماضيها.

«غيمة وكواسر»: رواية كويتية عن الحب والإنسانية والأمل

من ذاكرة المكان إلى هشاشة الإنسان، تأتينا رواية «غيمة وكواسر» للكاتبة الكويتية أسيل عبدالحميد أمين، التي تُقدَّم بوصفها رواية عن الحب والإنسانية والأمل، تتابع رحلة فتاة كويتية حالمة في عالم تحاصره القسوة.

تبني الرواية عالماً رمزياً يحتشد بثنائية واضحة: من جهة الغيمة بما تحمله من دلالات الرقة والهشاشة والنقاء والحلم والتجدد، ومن جهة أخرى الكواسر بما تستدعيه من معاني القوة والهيمنة والصيد والافتراس. يتجسد الصراع بين هذين القطبين في مصائر الشخصيات، وفي تفاصيل الحياة اليومية التي لا تخلو من عنف مادي ورمزي، لكن النص يصرّ في الوقت ذاته على الدفاع عن إمكانية الأمل، وعلى أن طاقة التحنان الإنساني قادرة على خلق منافذ صغيرة للضوء حتى في أكثر اللحظات قتامة.

تندرج هذه الرواية ضمن مسار الرواية الكويتية التي تعيد النظر في موقع الفرد داخل التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية السريعة، وتستخدم بنية سردية تجمع بين الواقعي والرمزي، وبين الحكاية الشخصية والأسئلة الوجودية العامة، ما يجعلها نصاً مفتوحاً على قراءات متعددة حول معنى القوة، وحدود الهشاشة، وإمكان المصالحة بينهما.


«ثنايا العشق»: كتابة سعودية على تخوم الشعر والنثر

أما في السعودية، فتطلّ الكاتبة هالة الجيرودي بعملها الأول «ثنايا العشق»، وهو كتاب أدبي يتعانق فيه الشعر والنثر في تكوين أسلوبي يجمع قصيدة النثر بالنصوص السردية القصيرة والتأملات الداخلية.

يتشكّل الكتاب من عشرين نصاً موزعة على نحو ثمانٍ وثمانين صفحة، حيث تتحرك الكاتبة بين موضوعات الحب والحنين وتأملات الذات ولحظات الصفاء الإنساني. ما يميّز هذه النصوص ليس موضوعها فقط، بل ذلك الإصرار على تجاوز التصنيفات الصارمة بين الأجناس الأدبية؛ فالقارئ يجد نفسه أمام كتابة هجينة تستعير إيقاع الشعر وكثافته، لكنها لا تتخلى عن نفَس السرد وطاقته على بناء مشهد وحوار وملامح شخصية.

ينعكس هذا الخيار الشكلي في نبرة بوحية شفيفة، تكشف خفايا الذات وهي تتلمس طريقها بين أوجاع الفقد ووعود التجدّد. لذلك يمكن النظر إلى «ثنايا العشق» بوصفه تمريناً على كتابةٍ نسائية عربية جديدة، تبحث عن مساحة حرّة تقول فيها المرأة تجربتها العاطفية والوجودية بلا حرج ولا تزويق، وبلا خوف من كسر الحدود التقليدية بين “القصيدة” و”القطعة النثرية”.


«للقطط نصيب معلوم»: العدالة من منظور كوني

من السعودية إلى مصر، حيث يأخذنا الروائي طلال سيف في روايته الجديدة «للقطط نصيب معلوم» إلى قرية مصرية في مطلع القرن العشرين، تتقاطع فيها مصائر البشر والقطط في سردٍ رمزي يشتبك مع فكرة العدالة الإلهية وتفاوت الأقدار بين المخلوقات.

تتقدم الرواية من خلال راوٍ يتجوّل في الأزقة والحقول، متفقداً “أهل المواء”، كما يسمّي القطط، في صياغة تزاوج بين الحسّ الواقعي وطبقة من المجاز الصوفي. في أحد المقاطع يرد على لسانه أن “ربّ القطط لا ينسى أحداً”، في إشارة إلى أن الرحمة الإلهية لا تستثني كائناً، وأن موازين العدل قد لا تُقاس بمقاييس البشر الضيقة.

بهذا المنظور، تصبح القرية مسرحاً لأسئلة كبرى حول الفقر والحرمان، وحول معنى أن تكون مخلوقاً ضعيفاً في نظام اجتماعي واقتصادي قاسٍ. يتخذ الكاتب من القطط مرآةً ينعكس عليها حال البسطاء والمهمّشين، فيكتسب النص بُعداً كونيّاً يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويقدّم درساً أدبياً في كيف يمكن لحكاية محلية أن تُنير قضايا إنسانية عامة.

«تحت شمس خفيفة»: يوسف أبولوز يعيد الحسّ النقدي للشعر

في حقل الشعر، يقدّم الشاعر والكاتب يوسف أبولوز كتابه «تحت شمس خفيفة.. مقاربات في الشعر والحياة»، الصادر عن دار «الآن ناشرون وموزعون».

الكتاب ليس ديواناً شعرياً بالمعنى التقليدي، بل هو مجموعة مقاربات وتأملات نقدية تتناول الشعر بوصفه طريقة في النظر إلى العالم، لا مجرد جنس أدبي. يقترب أبولوز من تجارب شعرية عربية وعالمية، ويستعيد مقاطع من سير شعراء، ثم يفتح منها نوافذ على أسئلة الحداثة الشعرية، وعلى علاقة القصيدة بالحرية والذاكرة واللغة اليومية.

يمتاز النص بصوتٍ نقدي هادئ، بعيد عن الأحكام القاطعة، يفضّل الإصغاء إلى القصائد ومحاورتها على محاكمتها. كما يربط المؤلف بين لحظات سيرة شخصية وبين تأملات في معنى الكتابة، فيبدو القارئ وكأنه يجلس مع شاعر يروي حكاياته مع النصوص التي أحبّها، ويقترح عليه في الوقت نفسه طريقة جديدة لقراءة الشعر، تتخفف من الأيديولوجيا والتصنيفات المدرسية، وتستعيد الدهشة الأولى أمام الكلمة.

«رؤية المملكة وعودة السينما السعودية»: توثيق لتحوّل ثقافي وفني

وتغلق هذا البانوراما الثقافية دراسة سينمائية مهمّة هي كتاب «رؤية المملكة وعودة السينما السعودية» للكاتب والقاص والإعلامي الدكتور خالد الخضري، الذي يُعدّ أول مؤلف من نوعه يتناول مسيرة السينما السعودية باللغتين العربية والإنجليزية، في سياق التحوّلات التي تشهدها المملكة في ظل رؤية السعودية 2030.

يرسم الكتاب خطاً زمنياً لتاريخ العروض السينمائية في المملكة، منذ بداياتها المتواضعة في بعض الأندية والفضاءات المغلقة، مروراً بفترة الحجب التي استمرت لعقود، وصولاً إلى العودة القوية لدور العرض والحراك السينمائي خلال السنوات الأخيرة. ولا يكتفي المؤلف بالتوثيق التاريخي، بل يدرس في الوقت نفسه السياق الثقافي والسياسي الذي جعل من السينما إحدى واجهات التغيير الاجتماعي في المملكة.

يتوقف الخضري عند أبرز الأفلام السعودية التي حصدت جوائز في المهرجانات الدولية، ويرصد صعود جيل جديد من المخرجين والمخرجات الذين يسهمون في إعادة تعريف صورة المجتمع السعودي في عيون ذاته وفي عيون العالم. كما يناقش التحديات التي تواجه الصناعة الناشئة من حيث البنية التحتية والتشريعات والتمويل والتوزيع، واضعاً تجربتها في حوار مع تجارب عربية أخرى.

في النهاية، يُظهر الكتاب كيف أن عودة السينما ليست حدثاً فنياً معزولاً، بل جزء من تحوّل ثقافي واسع يعيد الاعتبار للفنون بوصفها شريكاً في التنمية الاقتصادية والإنسانية معاً.

خيط واحد… وأسئلة متعدّدة

إذا جمعنا هذه الإصدارات تحت عدسة واحدة سنكتشف أنها، على تنوّعها، تشترك في أسئلة عميقة:

  • كتاب إرث فيلكا ينبه إلى ضرورة إنقاذ الذاكرة المادية قبل أن تضيع في زحام المشاريع المتأخرة.

  • رواية «غيمة وكواسر» تعيد طرح سؤال الإنسانية في عالم يميل إلى التوحّش.

  • «ثنايا العشق» تفتّش في تضاريس الذات العاشقة عن لغة جديدة لا تخضع لقوالب الأجناس الأدبية.

  • «للقطط نصيب معلوم» تعيد تأمل مفهوم العدالة من منظور كوني يساوي بين الكائنات في دائرة الرحمة.

  • «تحت شمس خفيفة» يستعيد للحياة الشعرية حسّها النقدي وقدرتها على مساءلة نفسها والعالم.

  • «رؤية المملكة وعودة السينما السعودية» توثّق لتحوّل سينمائي يعكس مشروعاً مجتمعياً أشمل.

هكذا تبدو الإصدارات الجديدة أشبه بخريطة دلالية للعالم العربي اليوم:
تراث يسعى لأن يُصان، فردٌ يحاول الحفاظ على إنسانيته، ذاتٌ تكتب عشقها بطرق جديدة، قرية تبحث عن عدالة مفقودة، شاعر يعيد التفكير في معنى القصيدة، وسينما تنهض من الغياب لتشارك في كتابة صورة المستقبل.

إنها كتب تنتمي إلى أجناس مختلفة، لكنها تلتقي في سؤال واحد: كيف نصنع معنى أكثر رحابة في زمن يضيق بالإنسان؟


0 التعليقات: