مقدمة: الثقافة كمرآة لمرحلة انتقالية
لا تحتاج الثقافة في المغرب إلى مقدمات تعريفية بقدر ما تحتاج إلى خرائط جديدة تُعيد ترتيب علاقتها بالمجتمع والدولة والتاريخ. فبعد سنوات طويلة من الانشغالات السياسية والاقتصادية التي حجبت بريق العمل الثقافي، يبدو أن العام 2025 يحمل معه تحولاً تدريجياً
نحو إعادة تقييم هذا القطاع بوصفه رافعة أساسية للتحديث الاجتماعي والاقتصادي. وقد بدت معالم هذا التحول جلية في سلسلة الأخبار التي تداولتها منصة مغرس بالأمس واليوم، والتي تعكس دينامية تتشكل بهدوء في خلفية المشهد الوطني.هذا الحراك، رغم محدوديته، يستحق قراءة معمقة لأنه يكشف عن ملامح “لحظة ثقافية” جديدة، لحظة تضع المغرب أمام سؤال قديم متجدد:
هل نحن بصدد الانتقال من ثقافة المناسبات إلى سياسة ثقافية شاملة؟
الدعم المالي للكتاب والنشر: بين الضرورة والحدود
جاء الإعلان عن تخصيص 10 ملايين درهم لدعم الكتاب والنشر سنة 2025 ليذكّر بأن البنية الثقافية لا يمكن أن تستمر دون دعم مؤسسي واضح. فقد استفاد من هذا البرنامج 379 مشروعاً موزعة على النشر الورقي، والإنتاج السمعي البصري الثقافي، والبحوث، والترجمة، والترويج.
وإذا كان الرقم في حد ذاته يعكس إرادة الحفاظ على صناعة الكتاب، إلا أنّه يطرح في الوقت ذاته سؤال الجدوى، خصوصاً أنّ الصناعات الإبداعية في المغرب لا تزال تعاني من ضعف منظومة التوزيع، وتراجع قدرة المكتبات، ومحدودية سوق القراءة.
لكنّ الملاحَظ في هذا الدعم هو تنويعه وتوسيع مجالاته، إذ لم يعد مقتصراً على النشر الفردي كما كان الحال سابقاً، بل شمل الترجمة والبحث الثقافي، وهو ما يدلّ على وعي متزايد بأهمية البنية التحتية المعرفية التي تسبق الفعل الإبداعي نفسه.
ومع ذلك، يظل المشهد محتاجاً إلى إعادة هيكلة جذرية، خاصة أنه لا يمكن اختزال “مجتمع القراءة” في دعم تقني، بل يحتاج إلى رؤية تدمج التعليم، والصناعة الثقافية، والتكنولوجيا.
الجامعة المغربية وسؤال المهارات الثقافية
العودة إلى النقاش حول “تعليم المهارات الثقافية والفنية في الجامعة” تعكس قلقاً قديماً: هل ما زالت الجامعة المغربية فضاءً لتخريج المثقف؟
لقد ظلّت الجامعة، منذ السبعينيات والثمانينيات، مركز الحركة الفكرية، لكنها فقدت تدريجياً هذا الدور نتيجة التحولات الاجتماعية والسياسات التعليمية المتعاقبة.
أمام هذا الواقع، تبرز الدعوات الأخيرة لتأسيس مسالك جديدة تُدمج الفن والثقافة ضمن تكوينات أكاديمية حديثة. والحديث هنا لا يتعلق فقط بإدراج المسرح أو السينما كمجالات للتعلم، بل يتعلق بخلق مهارات ثقافية تُعِدّ جيلاً قادراً على التعامل مع الصناعات الثقافية بوصفها سوقاً وفرصة مهنية.
إنّ مقترح إدراج هذه المهارات ينسجم مع التحول العالمي الذي يرى في الفن مهنة مستقبليّة، ويعيد الاعتبار إلى العمل الثقافي باعتباره اقتصاداً لا يقلّ أهمية عن التكنولوجيا أو السياحة.
مشروع الورقة الثقافية: نحو تعاقد حداثي
من بين المبادرات التي تستحق التأمل مشروع “الورقة الثقافية” الذي طرحته نقاشات صحافية أخيرة، والذي يهدف إلى صياغة تعاقد ثقافي حداثي بين مختلف الفاعلين في الحقل الثقافي.
تسعى هذه الورقة إلى:
-
وضع رؤية استراتيجية بعيدة المدى تُخرج الفعل الثقافي من منطق المواسم.
-
توزيع واضح للأدوار بين الدولة والمؤسسات والجماعات الترابية والمجتمع المدني.
-
إقامة علاقة جديدة بين الثقافة والاقتصاد عبر إدماج الصناعات الإبداعية في السياسات التنموية.
-
إعادة الاعتبار للثقافة الجهوية بوصفها ثروة تتجاوز المركز.
هذا المشروع، وإن كان لا يزال في بداياته، يمثل خطوة مهمة للتفكير في ثقافة مغربية متوازنة، تدمج الهوية المحلية بالانفتاح العالمي، وتنتقل من “إدارة الفعل الثقافي” إلى “قيادة التحول الثقافي”.
المغرب كخزان فني في نظر الخارج
تصريح وزارة الثقافة الفرنسية بأن المغرب "خزان فني في ازدهار مستمر" يحمل أكثر من دلالة.
فهو يشير أولاً إلى الاعتراف الدولي المتنامي بالمبدعين المغاربة، في الموسيقى والفن التشكيلي والسينما والموضة والأدب.
ويشير ثانياً إلى نجاح الدبلوماسية الثقافية المغربية التي توسعت خلال العقد الأخير عبر المعاهد الثقافية، واللقاءات الدولية، والمهرجانات متعددة التخصصات.
كما أن هذا الاعتراف يأتي في لحظة تتسابق فيها الأمم لتعزيز حضورها الثقافي بالقوة الناعمة، وهو ما يضع المغرب في موقع متقدم داخل القارة الإفريقية والعالم العربي.
لكن هذا الاعتراف يطرح أيضاً سؤالاً آخر:
إذا كان العالم يعترف بقيمة الإبداع المغربي، فلماذا لا يزال التلقي الداخلي بطيئاً؟
الجواب يعود إلى غياب صناعة ثقافية متكاملة، وليس إلى ضعف المبدعين.
دعم المهرجانات والجهات: نحو لامركزية ثقافية
تخصيص 9 ملايين درهم لدعم الأنشطة الثقافية والمهرجانات توجّهٌ يحمل معنى كبيراً في سياق النقاش حول اللامركزية الثقافية.
إن جهة سوس، والجنوب الشرقي، والريف، وواحات درعة، والمناطق الجبلية، كلها تمتلك تراثاً غير مستغلّ، وإبداعات تنتظر من يخرجها إلى الضوء. ولهذا، فإن توجيه الدعم نحو الجهات يمثل خطوة لإعادة التوازن بين “الرباط والدار البيضاء” من جهة، وبقية المغرب من جهة أخرى.
لكن اللامركزية تحتاج أيضاً إلى بنية تحتية:
مراكز ثقافية حديثة، مكتبات جهاتية، فضاءات عرض، دور سينما، مختبرات موسيقية…
وكلها لا تزال تعاني من ضعف واضح.
مشهد ثقافي في طور التكوين
حين نقرأ هذه الأخبار مجتمعة، نلاحظ أنها لا تشكل أحداثاً منفصلة، بل تتقاطع في رسم ملامح مشهد ثقافي جديد يقوم على خمس دعائم رئيسية:
-
دعم مؤسسي يتجه نحو الإصلاح.
-
تنويع لمسارات التعليم الثقافي.
-
تفكير في تعاقد ثقافي حديث.
-
اعتراف دولي متزايد بالإبداع المغربي.
-
سعي نحو توزيع عادل للفعل الثقافي على الجهات.
هذا التلاقي لا يعني أن الطريق سالك بالكامل، بل يكشف عن مرحلة انتقالية تحتاج إلى الوعي النقدي والمتابعة المستمرة.
التحديات: ما الذي لا تزال الثقافة المغربية تفتقده؟
رغم المؤشرات الإيجابية، يواجه الحقل الثقافي المغربي عدداً من التحديات البنيوية:
1 ـ ضعف صناعة الكتاب
سوق القراءة ضيقة، وسلاسل التوزيع منهكة، والكتاب يكاد يتحول إلى منتَج فاقد للربحية.
2 ـ غياب استراتيجية وطنية للثقافة الرقمية
في زمن الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز، لا تزال المشاريع الرقمية تسير ببطء شديد، وهو ما يضع المغرب خارج حركة الأدب الرقمي العالمي.
3 ـ المركزية المفرطة
الرباط والدار البيضاء تستحوذان على الجزء الأكبر من الفعل الثقافي، بينما تفتقر الجهات إلى البنيات الأساسية.
4 ـ غياب منظومة اقتصادية للصناعات الإبداعية
السينما والموسيقى والموضة والفنون البصرية تحتاج إلى بيئة استثمارية وتكوينية.
5 ـ ضعف الشراكة بين القطاعين العام والخاص
الثقافة ليست مسؤولية الدولة وحدها، بل مسؤولية المجتمع بأكمله.
خاتمة: نحو عقد ثقافي جديد
ما نراه اليوم ليس نهضة ثقافية كاملة، ولا حالة ركود.
إنه انتظارٌ مُتَحَرِّك، يتجه فيه المغرب بخطوات محسوبة نحو بناء نموذج ثقافي حديث يعتمد على التوازن بين التراث والحداثة، وبين المحلي والعالمي، وبين الفن كمتعة والفن كاقتصاد.
اللحظة الثقافية الحالية تحمل ملامح مشروع وطني جديد، يضع الثقافة في قلب التحول الاجتماعي.
لكن هذا المشروع لن يكتمل دون:
-
رؤية استراتيجية شاملة
-
إصلاح الجامعة
-
دعم الصناعات الإبداعية
-
اعتماد ثقافة رقمية
-
توسيع الفعل الثقافي نحو الجهات
-
إشراك الفاعلين المستقلين
لقد آن الأوان لإطلاق عقد ثقافي وطني يكون بمثابة “دستور ثقافي” جديد، يرسم حدود الأدوار، ويعلن أن المغرب لا يمكن أن ينهض اقتصادياً دون أن ينهض ثقافياً.
وفي انتظار هذا العقد، يستمر المشهد الثقافي المغربي في تشكيل ملامحه…
بصمت، وبطء، لكن بثبات.
ـ عبده حقي








0 التعليقات:
إرسال تعليق