تمثّل الفلسفة البوذية إحدى أكثر التجارب الفكرية ثراءً في تاريخ الإنسانية، ليس بسبب امتدادها الجغرافي والثقافي فحسب، بل لأنّ مدارسها المتعددة قدّمت نماذج متنوّعة للوجود والمعرفة والذات والزمن، جعلتها سجلاً متحركاً للفكر الآسيوي في أعمق تجلياته. ومن بين المدارس التي شكّلت منعطفات كبرى في تطور البوذية: المادياميكا، والبودغالاڤادا، والسارڤاستيفادا، وهي مدارس تختلف في منطلقاتها الميتافيزيقية، لكنها تتقاطع في انخراطها العميق في السؤال الجوهري: كيف نفهم الذات والظواهر والعالم دون الوقوع في فخّ الجوهرانية أو العدمية؟
يهدف هذا المقال إلى تقديم قراءة أكاديمية موسّعة لهذه المدارس الثلاث، عبر تحليل خلفياتها الفلسفية، ومقارنتها، وإبراز مساهمتها في تطور الفكر البوذي.
أولاً: المادياميكا – فلسفة الفراغ وتفكيك الجوهر
يُعدّ مذهب المادياميكا (Madhyamaka) الذي أسّسه الفيلسوف الهندي ناغارجونا في القرن الثاني للميلاد أحد أكثر المشاريع الفلسفية جرأة في الفكر الآسيوي. إذ يقدّم تصوراً يقوم على مبدأ الفراغ (Śūnyatā) باعتباره القانون الأعلى للوجود. الفراغ هنا ليس عدماً، بل هو نفيٌ لأي جوهرٍ ثابتٍ في الظواهر، تأكيداً لحقيقة “الاعتماد المتبادل” التي ترى أنّ كل ما يوجد لا يمكن أن يوجد بذاته، بل من خلال شبكة من العلاقات السببية.
هذا الطرح يُعطي للمادياميكا طابعاً نقدياً أقرب إلى التفكيك، حيث لا تنطلق من تأسيسات ميتافيزيقية، بل من تفكيك جميع الادعاءات الميتافيزيقية. ولذلك يرى ناغارجونا أنّ كل محاولة لإسناد جوهر لأي كيان هي إيقاعٌ في الوهم. ومن هنا سمّي هذا المذهب بـ طريق الوسط، لأنه يرفض ثنائية الوجود التام والعدم التام، مقدّماً رؤية ديناميكية للواقع باعتباره سلسلة من العمليات أكثر منه مجموعة من الكيانات.
وما يميز هذا المذهب هو قدرته على إعادة بناء المفاهيم الأخلاقية والروحية دون اعتماد على جوهر ثابت. فالتحرّر وفقاً له ليس محواً للذات ولا إثباتاً لها، بل خروجٌ من وهم الجوهر باتجاه إدراك الطبيعة العلائقية للوجود.
ثانياً: البودغالاڤادا – الدفاع عن "الشخص" كاستمرار أخلاقي
على خلاف معظم مدارس البوذية التي انحازت إلى مبدأ اللا-ذات (anātman)، جاءت مدرسة البودغالاڤادا (Pudgalavāda) لتطرح سؤالاً إشكالياً: كيف يمكن تفسير الأخلاق والكارما والوعي واستمرارية التجربة دون افتراض نوع من الذات؟
قدّمت البودغالاڤادا مفهوماً وسطاً للذات هو البودغالا (الشخص)، وهو ليس روحاً مستقلة كما في الديانات الثيولوجية، ولا مجرد تجمّع ظواهر كما تقول المدارس الأبهيدارمية، بل "عملية" أو "استمرار وظيفي" يجمع بين التجربة الأخلاقية للإنسان وبين تتابع الكارما. هذا الشخص ليس جوهراً ثابتاً، لكنه ليس غائباً أو معدوماً أيضاً؛ إنه، حسب أصحاب المذهب، نمط وجود لا يمكن اختزاله ولا يمكن تأبيده.
لقد واجه هذا المذهب انتقادات لاذعة من المدارس الأخرى التي رأت أنه يحيي مفهوم الذات بطريقة مستترة، وهو ما يناقض جوهر التعاليم البوذية. لكنّ البودغالاڤادا دافعت عن موقفها بأنّ نفي الذات بالكامل يجعل الأخلاق مستحيلة، وأنّ فهم الكارما دون وجود “فاعل عملي” ليس أمراً قابلاً للاستيعاب المنطقي.
ومع أنّ هذه المدرسة لم تستمر في التاريخ كما استمرت مدارس المهايانا أو السارڤاستيفادا، إلا أنّها قدّمت مساهمة مميزة في محاولة التوفيق بين البعد الأخلاقي والبعد الوجودي، وهو ما يجعلها محط اهتمام الباحثين في تاريخ الفكر البوذي.
ثالثاً: السارڤاستيفادا – كلّ شيء موجودٌ في الأزمنة الثلاثة
تشكل السارڤاستيفادا (Sarvāstivāda) إحدى أهم مدارس الأبهيدارما وأكثرها تأثيراً في تشكيل الفكر البوذي في شمال الهند وآسيا الوسطى. واسم المدرسة يعني حرفياً: "كلُّ شيء موجود"، وهو تعبير مكثّف عن أطروحتها الأساسية: أنّ الظواهر (Dharmas) لا تتلاشى تماماً بعد حدوثها ولا تظل غير موجودة قبل حدوثها، بل تمتلك نوعاً من الوجود في الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل.
هذا التصور لا يعني أنّ الماضي حاضر أو أنّ المستقبل قد حدث بالفعل، بل أن لكل ظاهرة أساساً وجودياً يجعلها قابلة للتأثير في الحاضر والتأثر به. ومن خلال هذا المبدأ حاولت المدرسة تفسير كيف يمكن للكارما أن تؤثر بعد سنوات أو حيوات من حدوث الفعل.
تميزت السارڤاستيفادا بدقة تحليلية استثنائية، إذ شرّحت الظواهر النفسية والمادية إلى وحدات دقيقة، ووضعت نسقاً معرفياً صارماً يحاول تفسير عمل الوعي، والزمن، والتفاعل السببي. وقد أثرت أفكارها بشكل عميق في تطور البوذية لاحقاً، خاصة في الصين والتيبت.
رابعاً: مقارنة منهجية بين المدارس الثلاث
على الرغم من انتماء هذه المدارس إلى المجال البوذي ذاته، فإنّها تُظهر تبايناً عميقاً في مقاربتها للفلسفة، ويمكن تلخيص هذا التباين في ثلاثة محاور:
1 ــ مفهوم الذات
-
المادياميكا: تنفي الذات والجوهر معاً.
-
البودغالاڤادا: تُثبت ذاتاً وظيفية أو عملية دون جوهر ثابت.
-
السارڤاستيفادا: تنفي الذات لكن تُثبت وجود الظواهر في الأزمنة الثلاثة، مما يعطي نوعاً من الاستمرارية غير الذاتية.
2 ــ طبيعة الظواهر
-
للمادياميكا، الظواهر فارغة ولا تمتلك ماهية مستقلة.
-
للبودغالاڤادا، الظواهر تُشكل مادة "الشخص"، لكنها لا تستنفده.
-
للسارڤاستيفادا، الظواهر حقيقية ولها وجود في الماضي والحاضر والمستقبل.
3 ــ الزمن والاستمرارية
-
ترى المادياميكا أنّ الزمن عملية متغيرة لا يمكن تثبيتها.
-
ترى البودغالاڤادا أنّ الاستمرارية الأخلاقية تتطلب "شخصاً وظيفياً".
-
ترى السارڤاستيفادا أنّ وجود الظواهر عبر الزمن يفسّر الاستمرارية دون حاجة إلى ذات.
خامساً: القيمة الفلسفية لهذه المدارس في الفكر الآسيوي والعالمي
لقد شكّلت هذه المدارس الثلاث مختبراً فكرياً واسعاً كان له أثر كبير في تطوير أفكار لاحقة داخل البوذية وخارجها.
فالمادياميكا، مثلاً، تُعدّ من أكثر المدارس التي يمكن مقارنتها بفلسفات ما بعد الحداثة والتفكيك، بفضل نقدها الجذري للجوهر والسرديات المطلقة. أما البودغالاڤادا، فقد مثّلت محاولة مبكرة للتوفيق بين الأخلاق والميتافيزيقا، بطريقة تشبه في بعض جوانبها مشاريع الفلسفة الأخلاقية الحديثة. وأما السارڤاستيفادا، فأسهمت في تطوير فلسفة الزمن والظواهر، وقدّم تحليلها المقارن بين الأزمنة الثلاثة نموذجاً مبكراً لما يمكن أن نسميه «أنطولوجيا زمانية».
أهمية هذه المدارس تكمن أيضاً في أنها تخالف الصورة النمطية التي ترى البوذية مجرد تعاليم روحية، في حين تكشف هذه المدارس عن عمقها الفلسفي التحليلي، وعن قدرتها على إنتاج نسق معرفي معقّد لا يقل وزناً عن مذاهب الفلسفة اليونانية أو الأوروبية.
خاتمة
يمثل كل من المادياميكا والبودغالاڤادا والسارڤاستيفادا مرحلة من مراحل تشكّل الوعي الفلسفي البوذي، وهي مراحل تتراوح بين التفكيك الجذري (المادياميكا) والبحث عن معنى الاستمرارية الأخلاقية (البودغالاڤادا) ومحاولة بناء أنطولوجيا زمنية دقيقة (السارڤاستيفادا). ورغم اختلاف مناهجها، فإنّ هذه المدارس تتقاطع في هدف واحد: تحرير الإنسان من التعلّق بالأوهام، عبر فهم أعمق لطبيعة الذات والظواهر والعالم.
بهذا المنظور، لا تبدو هذه المدارس مجرّد مدارس دينية، بل هي مختبرات فلسفية حيّة ما تزال تشكّل مادة خصبة للبحث والتأمل، داخل التاريخ الآسيوي وفي الفكر الفلسفي العالمي على حدّ سواء.








0 التعليقات:
إرسال تعليق