لم تعد التفاهة في المغرب مجرّد محتوى عابر يُستهلك وينسى في اليوم ذاته، بل أصبحت أشبه بطبقة كثيفة من السحاب الرقمي تحجب ملامح مجتمعنا المغربي الأصيل، وتشوه صورته أمام العالم، وتخلق واقعًا موازياً لا يمتّ بصلة إلى حقيقة المغاربة ولا إلى عمق حضارتهم التليدة . وحين تتحول السوشيال ميديا إلى ماكينة ضخمة تعيد تدوير السطحية، وتدفعها إلى واجهة الترند، يصبح خوض «الحرب على التفاهة» ضرورة اجتماعية وأخلاقية وثقافية، لا مجرد خيار نقدي عابر.
لقد عرف المغرب، خلال
العقد الأخير، صعودًا لافتا ومربكًا لفئة من «المؤثرين» الذين اقتحموا المشهد الافتراضي
من بوابة الإثارة الرخيصة، والمتاجرة في الأجساد، واستثمار الدين، وتدوير الخرافات،
وتضخيم الفضائح، وتقديم صورة نمطية ومشوّهة عن وطن مترامي التاريخ ومتعدد الأصوات.
فبدل أن تكون المنصات الرقمية امتدادًا لنبض المجتمع، أصبحت في كثير من الأحيان مرآة
كاذبة ومصقولة بيد من يبحث عن الربح السريع، ولو على حساب القيم والذوق العام والأمن
الرمزي للوطن.
أخطر ما في هذه الظاهرة
أنها لم تعد محصورة في دائرة الفرجة القصيرة العمر والرخيصة، بل تحولت إلى آلية تصنع
إدراكًا جماعيًا جديدًا. فالجيل الذي يفتح عينيه كل صباح على فيديوهات تُروّج للجنس
المبطّن والعلني والابتزاز العاطفي، والفضائح المفتعلة، وتقدّم نماذج سريعة للغنى والشهرة،
سيتشرّب، بوعي أو من دون وعي، قيمًا جديدة تستبدل الاجتهاد بالاستعراض، والمعرفة بالصراخ،
والمهارة بالفضيحة. وبذلك يصبح المؤثر التافه أكثر تأثيرًا من المعلم، وأكثر حضورًا
من الكاتب، وأكثر سلطةً من الصحافي.
ولم تقف موجة التفاهة
عند هذا الحد، بل ظهرت فئة أخرى عميقة الضرر: تجار الدين. أولئك الذين يمزجون الفتوى
بالتسلية، ويحوّلون الخطاب الديني إلى عرض مباشر، يبيعون فيه الطمأنينة بسرعة «اللايك»
ويخلطون بين الموعظة والتسويق. وبموازاة ذلك انتشرت موجة من المشعوذين الرقميين، من
قارئي الطالع إلى مفسري الأحلام ومدّعي العلاج بطاقة الرقية الشرعية، الذين يكرّسون
العقلية القدرية ويقوّضون أسس التفكير العلمي ويستغلون هشاشة الناس من أجل المزيد من
الأرباح.
وفي الجانب الأكثر
قتامة، يقف المؤثرون الذين يتاجرون بسمعة المغرب نفسه. منهم من يختلق مأساة اجتماعية،
ومن يضخّم واقعة بسيطة ويحوّلها إلى «فضيحة دولة»، ومن يعرض حياته الخاصة وخصوصيات
الآخرين للبيع العام، غير مدركً أنّ العالم يراقب وأن الصورة التي سينقلها قد تتحول
إلى عنوان إعلامي في الخارج. هؤلاء لا يقدمون محتوى، بل يقدمون «تشويهًا» ممنهجًا للبلد
وللإنسان المغربي، في لحظة تحتاج فيها المملكة إلى تعزيز صورتها الدولية الصافية، لا
إلى تدميرها من داخل فضاء افتراضي منفلت.
وهكذا يصبح المشهد
المغربي محاصرًا بجيش من التافهين الذين يمارسون تأثيرًا معكوسًا: تأثيرًا يهدم ولا
يبني، يخدر ولا يحرر، يجرّ إلى الخلف بينما يتقدم العالم نحو اقتصاد المعرفة والابتكار.
ومن هنا تنبع الحاجة إلى «الحرب على التفاهة» بوصفها حركة تصحيحية شمولية: حماية للذوق
العام، وصيانة للقيم، وترميمًا للصورة العالمية للمغرب، وتحصينًا للأجيال الجديدة من
اقتصاد الوهم.
الحرب على التفاهة
لا تعني الرقابة القمعية، ولا خنق حرية التعبير، بل تعني بناء جدار من الوعي، وتعزيز
التربية الإعلامية في المدارس، وإحياء دور القراءة والفنون والفكر النقدي، وتشجيع المحتوى
الهادف الذي يكرّم الإنسان بدل استغلاله، ويعكس المغرب بعمقه وتنوعه بدل اختزاله في
مشهد مثير للشفقة. وتعني أيضًا أن تتحمل الدولة مسؤوليتها في ردع خطاب الكراهية والعنف
والإساءة للقاصرين، وتحيين المنظومة القانونية المرتبطة بالمنصات الرقمية، ومراقبة
الأموال المجهولة التي تتحكم في «ترندات» موجهة ومشبوهة.
كما أن للمجتمع
المدني دور جوهري في هذه الحرب، من خلال إطلاق مبادرات للنقد الثقافي، ودعم صناع المحتوى
الجاد، وفضح الممارسات التي تستغل هشاشة الجمهور. كما أن للصحافة المهنية مسؤولية مضاعفة
في تقديم أطروحة مضادة للسطحية، وفي تعويض الفراغ الذي سمح للتفاهة بأن تتمدد وتبتلع
الفضاء العمومي.
إن «الحرب على التفاهة»
ليست صراعًا ضد أفراد بقدر ما هي مواجهة مع بنية ثقافية بدأت تتمدد على حساب المعرفة
الهادفة. وهي معركة دفاع عن صورة المغرب في الخارج، وعن كرامة المواطن في الداخل، وعن
مستقبل الأجيال التي تستحق فضاءً رقميا يمنحها الأمل لا العطب، والمعرفة لا الخرافة،
والقدرة على صنع المستقبل لا الهروب منه.
وحين يتم ترسيخ هذه
الرؤية، لن يكون هدفنا فقط محو التفاهة، بل إعادة بناء المعنى، وإعادة الاعتبار للمبدعين
والمثقفين والباحثين والمربين، حتى يصبح التأثير قيمة تُنتج معرفة، لا سوقًا تُساوم
ويتاجر فيها الفضائح.








0 التعليقات:
إرسال تعليق