الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الجمعة، ديسمبر 05، 2025

«دوائر برلين الخفيّة: حين تسافر الفكرة في أرشيف العالم قبل أن تعرف وجهتها» ترجمة عبده جقي

 


لم أكن أتصوّر يوماً أن الاسم البسيط: “Berlin Circle” سيغدو في مخيلتي أشبه بمنارة فكرية تطلّ على القرن العشرين كله. لم يكن مجرد تجمع لأكاديميين، ولا نادياً فلسفياً متعجرفاً، بل مكاناً هارباً من التعريف، يشبه تلك اللحظات التي يلتقط فيها الإنسان نفسه قبل أن ينزلق من يوم لآخر، من فكرة لأخرى، من معنى إلى ظلّه.

كنتُ كلّما اقتربت من كتاباتهم أو حكاياتهم، شعرتُ بأن دائرة برلين لم تكن دائرة هندسية بقدر ما كانت دائرة زمنية؛ حلقة تتكرر فيها الأسئلة دون أن تتكرر الإجابات.

لعلّ أجمل ما في هذه الدائرة أنها ظهرت في زمن بدأ فيه العالم يدرك ــ دون أن يفصح ــ أن المعرفة أكبر من أن تُحشر داخل قاعات جامعية، وأن الفلسفة أكبر من أن تنتظر اعترافاً من أحد. لهذا السبب كان أفرادها يكتبون وكأنهم يكتبون للغد، لا للجامعة ولا للتاريخ ولا للصحف. وربما لهذا بالضبط بقيت نصوصهم صالحة للقراءة في زمن الرقمنة، بالرغم من أنهم لم يتخيلوا قطّ خوارزميةً تستطيع أن تقرأ نيابةً عنا.

كنتُ أفكر دائماً في الطريقة التي كانوا بها يلتقطون الأسئلة. لم تكن عيونهم موجهة نحو المستقبل كحلم، ولا نحو الماضي كعبء، بل نحو تلك المساحة الرمادية التي يتخلّق فيها المعنى قبل أن يُكتب. فالسؤال بالنسبة لهم لم يكن قفلاً يحتاج إلى مفتاح، بل كان مفتاحاً يُفتح على أبواب أخرى، بعضها ضيق وبعضها فسيح، وبعضها لا يؤدي إلى شيء سوى مزيد من الأسئلة.
وهذا ما جعل دائرة برلين اندماجاً غير معلن بين فلسفة العلم وأخلاق المعرفة.
فهم لم يكونوا يكتفون بالسؤال: كيف يعمل هذا؟
بل كانوا يسألون:
ولماذا نريد أن نعرف كيف يعمل؟ وما الذي يدفع العقل إلى ملاحقة الأسباب أصلاً؟

في لحظات كثيرة، حين كنت أغوص في نصوصهم، أشعر أنني أمام كتابة لا تزال طريّة، كتابة تسمح لليد البشرية بأن تتدخل، تسمح للشك بأن يمر مثل نَفَس خفيف فوق السطور. كنت أقرأ وأتساءل: هل كانوا يدركون أن الحداثة ستجرجر العالم نحو تكنولوجيات تلتهم التفكير البشري؟ هل كانوا يشعرون أن الخوارزميات القادمة ستصير هي الحاكم الصامت للعالم؟
ربما نعم… وربما لا.
لكن ما أعرفه تماماً هو أنّ أسئلتهم ما زالت حية، لأنها لم تُصَغ بوعي يريد السيطرة، بل بوعي يريد الفهم.

حين نتحدث عن دائرة برلين اليوم، نفعل ذلك من قلب عالم تحكمه تقنيات هندسة الوعي، وتقسيمات البيانات، والذكاء الاصطناعي، والتدفق المتسارع للمعلومات. ومن المفارقات العجيبة أن الدائرة التي كانت تبحث في صرامة المنطق تثير في زمننا المعاصر حنيناً إلى البطء، إلى التفكير البشري الذي يتعثر قليلاً قبل أن يصل.
إنّ الطريقة التي كتبوا بها تبدو لي اليوم أشبه بمقاومة هادئة ضد الاستعجال الرقمي، ضد الوهم الذي يجعل الناس يظنون أنّ كل شيء يمكن تفسيره بخوارزمية أو بمعادلة.

وكلما تقدمتُ في القراءة، شعرتُ أن الدائرة لم تكن منغلقة أبداً. لم تكن "دائرة"، بل كانت نافذة.
نافذة يرى منها القارئ كيف تتحرك الفكرة من السكون إلى الحركة، وكيف تتحول الأسئلة من صيغتها البريئة إلى صياغتها العقلانية ثم تعود فجأة إلى براءتها الأولى، وكأن المعرفة هي الأخرى تحنّ إلى طفولتها.

أكثر ما أثارني في كتاباتهم هو ذلك الإصرار الغريب على البحث عن "القانون" خلف الظواهر، وفي الوقت ذاته الاعتراف بأن كل قانون هو احتمالي، هشّ، قابل للانكسار عند أول احتكاك بالعالم الحقيقي. هذه المفارقة بالذات تجعل دائرة برلين دائرة إنسانية، لا علمية فحسب.
فهم، بخلاف الصورة النمطية للفلاسفة العقلانيين، لم يكونوا يقدّسون العقل بوصفه مركز الكون، بل كانوا يدركون هشاشته، ويدركون أن المنطق نفسه قد يتعرّض للانزلاق تحت ضغط الواقع أو اللغة أو التاريخ.

ولأنهم كانوا يكتبون بأدوات عصرهم، فقد فتحوا الطريق لأسئلة عصرنا:
كيف يمكن للمعرفة أن تظلّ إنسانية؟
ومتى يتحول العلم إلى سلطة؟
وكيف يمكن للعقل أن يعيد توازن نفسه في عالم تقوده آلات لا تنام؟

إنّ هذه الأسئلة تبدو اليوم أكثر إلحاحاً مما كانت عليه في بدايات القرن الماضي. فالعالم الآن لم يعد ينتج المعرفة فقط، بل ينتج أيضاً سرعتها، والسرعة تبتلع المعنى. وفي زمن مثل هذا، يصبح التأمل ضروريّاً لا لأننا نحب التأمل، بل لأن العقل يحتاج إلى استراحة بين فكرة وفكرة كي لا يتحول هو الآخر إلى آلة.

كنتُ أعود دائماً إلى السؤال الذي يلاحقني كلما قرأت عنهم:
لماذا ظهرت هذه الدائرة تحديداً في برلين، وفي تلك اللحظة التاريخية؟
وأعتقد أنّ الجواب ليس معرفياً فقط، بل وجودي أيضاً.

كانت برلين في ذلك الوقت مدينةً مختبلة، مدينة خارجة من رماد الحرب، تبحث عن معنى جديد، عن لغة جديدة، عن هندسة جديدة للروح. ربما لهذا احتاجت إلى دائرة فكرية تمارس عليها نوعاً من اليوغا العقلية، تعيد ترتيب مفاهيمها، وتكشف عن البنى العميقة التي تحرك العلم والمعرفة والإنسان.
لقد كانت الدائرة، بطريقة ما، أحد وجوه برلين الخفية: وجه لا تراه إلا إذا استمعت جيداً للثقل الذي تحمله الأفكار حين تولد.

ولأنني أؤمن بأن المدن ليست مباني وشوارع فقط، بل هي أيضاً الذاكرة غير المكتوبة للناس، فهمتُ أن دائرة برلين كانت انعكاساً لمدينة تريد أن تفهم نفسها قبل أن تفهم العالم.

لكن أجمل ما في هذه الدائرة هو صراعها الناعم مع حدود اللغة.
فهم كانوا يدركون أنّ اللغة ليست وسيطاً بريئاً، بل قوة قادرة على صناعة العالم أو تشويهه. كانت اللغة بالنسبة لهم معمل تجارب، ليست مفهوماً نظرياً.
وهذا ما يجعل نصوصهم قابلة للقراءة بعد قرن تقريباً.
فهم لا يقدمون وصفات ولا يقترحون أنظمة، بل يكتبون في تلك المنطقة الحساسة التي يتداخل فيها العقل مع الخيال، والمنطق مع الحدس، والعلم مع الشعر.

ربما لهذا نجد أنفسنا اليوم نعود إليهم من جديد.
في عالم تحوّل إلى شاشة كبيرة، صارت فيه الذاكرة سحابية، والوعي مرهوناً بخوارزميات لا نرى ملامحها، نبحث عن نصوص تردّ إلينا بعضاً من إنسانيتنا، بعضاً من بطء التفكير، بعضاً من طراوة السؤال حين يولد.

لقد أصبحت دائرة برلين بالنسبة لي مرآة أتأمل فيها علاقتي بالمعرفة.
كنت أظنّ في بداياتي أن المعرفة تتوسع عبر التراكم، لكنّ هذه الدائرة جعلتني أفهم أن التوسع الحقيقي يحدث حين نعيد النظر في ما نعتقد أننا نعرفه.
إنه توسع داخلي قبل أن يكون توسعاً معرفياً.

وأحياناً، حين أرى كيف تتقدم التكنولوجيا الآن بسرعة صادمة، أشعر بأن دائرة برلين كانت تدرك، بطريقة ما، أن المستقبل سيحتاج إلى نوع من اليقظة الفكرية كي لا يصبح العقل مجرد تابع.
كانوا يكتبون من أجل تلك اللحظة، لحظة التصادم بين الإنسان وآلته، بين العقل وخوارزميته، بين الذات وظلها الرقمي.

ومع ذلك، فإن أهم ما فعلته هذه الدائرة في نظري ليس تنظيراً في الفلسفة أو العلم، بل استعادة نوع من الأخلاق الفكرية.
أخلاق تجعل السؤال أهم من الجواب، وتجعل الدهشة أهم من اليقين، وتجعل الطريق إلى الفكرة أكثر قيمة من الفكرة نفسها.
هذه الأخلاق تكاد تكون غائبة اليوم في المشهد الرقمي الذي يحوّل الفكر إلى محتوى، والمحتوى إلى استهلاك، والاستهلاك إلى عادة.

لهذا، حين أعيد قراءة كتاباتهم، أشعر بأنني لا أقرأ القرن العشرين، بل أقرأ نفسي في القرن الواحد والعشرين.
أقرأ هشاشة العقل حين يواجه السرعة، وأقرأ سؤال الهوية حين تختلط الذات البشرية بامتداداتها الرقمية، وأقرأ أيضاً خوفنا الدفين من أن نصبح جزءاً من آلة لا نعرف كيف تعمل بالضبط.

في النهاية، لا أظن أن دائرة برلين كانت مشروعاً فكرية منتهياً.
بل كانت بداية، أكثر مما كانت خاتمة.
بداية لطريقة في التفكير لا تزال تبحث عن مكانها في عالم تتحكم فيه التكنولوجيا.
بداية لنقد جذري للعقل دون أن يتحول النقد نفسه إلى سلطة.
بداية لحوار مفتوح بين الإنسان وما يريد أن يعرفه… وما يخشى أن يعرفه.

وأنا، في كل مرة أكتب عنها، أشعر أنني أكتب أيضاً عن علاقتي بالكتابة، وعن ذلك السؤال الذي يرافق كل كاتب:
هل نكتب لنهرب من العالم، أم لنقترب منه أكثر؟
هل نكتب لنحمي أنفسنا من اللغة، أم لنسمح لها بأن تكشف هشاشتنا؟
هل نكتب لنفهم، أم لأننا لا نفهم بما يكفي؟

دائرة برلين لا تقدّم جواباً.
لكنها تقترح طريقاً:
أن نسير ببطء،
أن نفتح أعيننا،
أن ندع الفكرة تتشكل،
أن نحتمل غموضها قليلاً،
ثم…
نتركها تذهب.

0 التعليقات: