الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الجمعة، ديسمبر 05، 2025

جزائر الرئيس… أو جغرافيا الهروب الكبير: عبده حقي


لم تعد الأزمة الجزائرية مجرّد تراكم أرقام اقتصادية قاتمة أو زلات دبلوماسية عابرة؛ لقد تحولت، في السنوات الأخيرة، إلى مشهد كامل تتداخل فيه الحسابات الداخلية مع ارتباك خارج الحدود، وتتقاطع فيه سرديات السلطة مع خوفٍ مكتوم يسري في أوصال الدولة. كل عنوان من العناوين المتداولة أخيرا ليس خبراً منفرداً، بل قطعة من فسيفساء سياسية واسعة تشير إلى شيء أكبر بكثير من مجرد سوء تدبير أو صراع أجنحة. إننا أمام بلد ينزلق، ببطء ولكن بثبات، نحو منطقة غائمة، حيث يفقد المركز سيطرته وتصبح الهامشيات علامات دالة على عمق الشرخ.

المقاطع المصوّرة التي تتساءل عن خطر حركة الماك، وعن وضع القبائل داخل المشهد السياسي، ليست مجرد تحليلات. إنها اعتراف غير مُعلن بأن الدولة، بكل جلالها الظاهر، تخاف من فكرة الاختلاف أكثر مما تخاف من خصومها الدوليين. حين يصبح مجرّد طرح سؤال «هل نحن في خطر؟» محركاً لعشرات الآلاف من المشاهدات خلال ساعات، فهذا يعني أن الشعور بالخوف لم يعد حالة فردية، بل إحساساً جمعياً يلتف حول عنق الجزائر الحديثة.

الخطر الحقيقي ليس في القبائل ولا في أي حركة انفصالية؛ الخطر يبدأ حين تفقد الدولة شرعيتها الأخلاقية وتستبدل الحوار بخطاب التخوين. وما يحدث اليوم يكشف أن السلطة لم تعد تملك أدوات الإقناع، لذلك تلجأ إلى رواية الخطر الخارجي للحفاظ على تماسك داخلي هشّ.

خسارة 5.4 مليارات دولار خلال ستة أشهر ليست رقماً اقتصادياً فحسب، بل جرس إنذار يدوّي في أروقة الحكم. فحين تخوض دولة غنية بالغاز والبترول "معركة الاستيراد" وتخرج منها منهكة، فهذا يعني أن الاقتصاد الجزائري لم يعد قادراً على الوقوف على قدميه دون عكازات.

وراء هذه الأرقام تتوارى قصة أكبر: منظومة مغلقة، غير قادرة على إنتاج الثروة، تُصرّ على إخماد المبادرة الخاصة، بينما تستنزف خزائن الدولة في دوامة دعم سياسي بدل تنمية اقتصادية. لذلك ليس غريباً أن نشهد نزيفاً في الكفاءات: مدراء شركات عمومية يفرّون كالحراكة، ورجال أعمال يلوذون بالخارج قبل أن يصفّق لهم القضاة في قاعات المحاكم.

الهروب، هنا، ليس مغامرة أفراد بل علامة على نهاية الثقة في الدولة كحامٍ ومرجع. حين يصبح المدير العام لمؤسسة عمومية مضطراً للهروب عبر قوارب الموت، فإن الرسالة وصلت: لا أحد في مأمن، ولا أحد يثق بالنظام.

المفارقة القاسية أن الجزائر، التي تعجز عن فتح صفحة جديدة مع جيرانها القريبين، تبحث عن "تحالفات" في بلدان منبوذة أو معزولة دولياً. بيلاروسيا، التي تُعد إحدى أكثر الدول تضييقاً وخنقاً للحريات، تحولت فجأة إلى "شهر عسل" دبلوماسي. لكن السؤال الذي يطرحه كل مراقب بسيط: ماذا ستجني الجزائر من الاصطفاف مع دولة محاصرة؟ هل هو بحث عن شرعية مفقودة؟ أم محاولة لبناء محور يائس ضد واقع دولي لا يعترف إلا بالفاعلين الأقوياء؟

أما التقارب مع الصومال أو موزمبيق أو دول الهامش الجيوسياسي، فهو يشي بأن السلطة صارت تبحث عن أي مُتنفّس دبلوماسي في مواجهة عزلة متنامية. لكنه تنفّس قصير، لا يغير شيئاً في صورة نظام أصبح رهينة قرارات متعجلة، تميل إلى المغامرة أكثر مما تميل إلى بناء استراتيجية مستدامة.

من أغرب التحولات في السياسة الخارجية الجزائرية هو ذلك العرض المسرحي الذي صاحب الموقف من غزة وفلسطين. فبعد سنوات من استخدام القضية كأداة للتعبئة الوطنية، يأتي اليوم خطاب جديد لا يكسب أي شيء لدى الإدارة الأميركية، خصوصاً إدارة ترامب التي لا ترى في الجزائر سوى دولة غير مؤثرة على الإطلاق في الشرق الأوسط.

لقد “بدّل” النظام موقفه دون أن يربح شيئاً. لم يفتح ذلك التغيير باباً في واشنطن، ولم يمنحه نفوذاً عربياً جديداً. كل ما فعله هو أنه كشف هشاشة الرهان الخارجي حين يكون معزولاً عن رؤية متماسكة.

في باريس، يتحول أحد الجزائريين إلى "حالة نادرة" داخل القضاء الفرنسي، في مشهد يعكس التعقيدات التي تنتجها السياسة الجزائرية حين تخرج إلى الخارج. وفي الداخل، يدفع مثقفون ثمن جرأتهم: بوعلام صنصال يُحرم من جوازه، ثم يُهدّد بحجز منزله، ثم يُفرج عنه لأن الضغط الألماني كان أقوى من صلابة السلطة.

القصة ليست في صنصال نفسه، بل في رمزية ما يحدث: نظام يخشى الكلمة، ويخاف الكاتب، ويعتقد أن الحبر أخطر من السلاح. لذلك يلاحق من يفكر، ويخنق من يختلف، ثم يتراجع تحت ضغط أوروبي، ليكشف أن قوته ليست ذاتية، بل مبنية على فراغ داخلي.

هروب رجال الأعمال، وهروب المدراء، وهروب حتى أولئك الذين اشتغلوا مع النظام نفسه، كلها علامات على أنّ السفينة لم تعد قادرة على حمل ركابها. آخر المشاهد هو رجل أعمال ثري وعضو سابق في مجلس الأمة يفرّ خارج البلاد خوفاً من ملف قضائي يوشك أن ينفجر. قبله مسؤول في مؤسسة عمومية، وبعده ربما أسماء أخرى لن تملك الوقت لحزم حقائبها.

الهروب هنا ليس جريمة، بل شهادة غير مكتوبة على أن النظام فقد تماسكه الداخلي. من يملك معلومات حقيقية عن الاقتصاد أو القضاء أو الصفقات العمومية يختار النجاة خارج الحدود، لأنه يعلم أن اللعبة تسير نحو انهيار يصعب توقّعه.

حتى زيارة البابا، التي كان يمكن أن تكون فرصة ناعمة لإعادة رسم صورة الجزائر، تتحول إلى خوفٍ رئاسي من أن تُجهض المبادرة بسبب حسابات داخلية. ذلك التردد يكشف شيئاً واحداً: انعدام القدرة على إدراك معنى القوة الناعمة في عالم أصبح يعتبر الرمزية أهم من البروتوكول.

الحديث عن "الأرقام السرية" التي تدين مالية الدولة ليس جديداً، لكن تكراره يوحي بأن الخلل لم يعد قابلاً للإخفاء. الحسابات العمومية تتآكل، والاحتياطي يُستنزف، والإنفاق السياسي يبتلع ما تبقى من رصيد دولة كان يمكن أن تكون قوة إقليمية صاعدة.

الأخطر أن الدولة نفسها لا تمتلك رواية مضادة؛ ما يُنشر يتحول إلى حقيقة لأن السلطة لم تعد قادرة على تقديم تفسير منطقي لحجم الانهيار.

ليس الأمر شتات عناوين ولا أخباراً متناثرة؛ إنه مشهد واحد يتكرر بأشكال مختلفة: سلطة تبحث عن مكان تحت الشمس، بينما يتساقط من حولها رجالها، ويهرب المستثمرون، ويتراجع الاقتصاد، ويتشنج الداخل، وتتخبط الدبلوماسية في اتجاهات عبثية.

إن الجزائر اليوم لا تواجه خصماً خارجياً، بل تواجه نفسها.
والمشكلة ليست في المعارضة، ولا في القبائل، ولا في “الأعداء” المتخيلين.
المشكلة في نظام فقد القدرة على الإنصات، وفقد القدرة على الإقناع، وفقد حتى القدرة على حماية رجاله.

وكلما تراكم الهروب، وتكاثرت الأزمات، وتعمقت العزلة، ازداد الاقتراب من لحظة الحقيقة… تلك اللحظة التي لا ينفع معها خطاب رسمي ولا يمكن فيها إخفاء الأرقام ولا شيطنة الآخر.

إنها بداية عصر جديد في الجزائر،
عصرٌ لا يُعرف شكله بعد، لكنه بدأ بالفعل.


0 التعليقات: