الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


إعلانات أفقية

الخميس، ديسمبر 04، 2025

جديد المكتبة والمنشورات العربية : إعداد عبده حقي


في كلِّ مرةٍ نُلقي فيها نظرةً على خارطة الكتاب العربي اليوم، نشعر أن المشهد لا يزال ينبض بحيويةٍ هادئة، كأن دور النشر تُعيد ترتيب رفوف الذاكرة العربية كي لا تسقط في هوّة النسيان. ومن يتابع ما تنشره منصّات ثقافية مثل «ضفة ثالثة» و«القدس العربي»، إلى جانب كاتالوغات دور عريقة مثل دار الساقي ودار الآداب، يلمح بسرعة أن السنوات الأخيرة، وخصوصًا 2024–2025، ليست سنوات ركود، بل سنوات إعادة تموضع للكتاب العربي في زمن الشاشات والهواتف الذكية. 

من الضفة الرقمية إلى رائحة الورق

منصّة «ضفة ثالثة»، المنبثقة عن «العربي الجديد»، اختارت منذ تأسيسها أن تكون ضفّة رقمية ثالثة بين الورق والشاشة: لا تكتفي بنشر الأخبار الثقافية، بل تقدّم قراءات معمّقة في الكتب، وعروضًا نقدية ورصداً للإصدارات الجديدة عبر أبواب «كتب»، «قراءات»، «عروض»، و«صدر حديثًا». هذا التوازن بين المتابعة الإخبارية والقراءة النقدية جعل كثيرًا من العناوين تمرّ من هناك قبل أن تستقرّ على رفوف المكتبات، وكأن الضفة الرقمية صارت معبرًا إلزاميًا للكتب التي تبحث عن قارئٍ مختلف، يهمّه سؤال المعنى بقدر ما تهمّه متعة السرد. 

في هذا الفضاء، نرى حضورًا واضحًا للرواية العربية الجديدة التي تشتبك مع الواقع دون أن تستسلم له؛ روايات عن الهامش، عن المدن الممزّقة، عن الهجرة، عن الحروب البعيدة والقريبة. ويتجاور مع هذا السرد الروائي نقدٌ فكري يقرأ في كتب الفلسفة والتاريخ والأنثروبولوجيا، بما يعكس تحوّلًا في ذائقة القارئ العربي الذي لم يعد يكتفي بالرواية بوصفها “متنفّسًا”، بل يريد نصًا يوسّع أفقه المعرفي، ويمنحه أدوات لفهم ما يجري حوله.

«القدس العربي» ورفوف «صدر حديثًا»

في المقابل، تواصل الصفحة الثقافية في «القدس العربي» لعب دور أشبه بما كان يقوم به الملحق الثقافي الورقي في زمن الصحف التقليدية، لكن بروح رقمية أكثر خفّة وانتشارًا. باب «صدر حديثًا» هناك تحوّل إلى أرشيف حيّ للإصدارات العربية الجديدة، من الفكر والفلسفة إلى الرواية والشعر واليوميات والسير، مع ميلٍ واضح إلى تقديم الكتب التي تفتح أسئلة جديدة أكثر ممّا تقدّم أجوبة جاهزة. 

خلال الشهور الأخيرة، ظهر في هذا الباب طيف واسع من العناوين التي تعكس تنوّع المشهد: كتب في «الفكر الفلسفي اللساني المعاصر» تعيد طرح علاقة اللغة بالفلسفة، وتجاورُها روايات مثل «آدم وزينب… من المحيط إلى الخليج» التي تقترح حكاية حبّ عابرة للحدود الجغرافية والسياسية، وكتب مذكّرات وسير ذاتية مثل «مدوّنة ليست شخصية» التي تستعيد سيرة جيل وتجربة وطن، فضلًا عن مشاريع نقدية مثل «رسالة اللاغفران» التي تحفر في علاقات الثقافة الخفية، وروايات فلسطينية مثل «سيدة الكونتينر» وكتب توثيقية حول «ملفات كردية» تعبر بين السياسة والتاريخ والحقوق. 

هذا التنوّع لا يبدو اعتباطيًا؛ فالقارئ الذي يصل اليوم إلى باب «صدر حديثًا» في «القدس العربي» هو نفسه القارئ الذي يسمع في نشرات الأخبار يوميًا عن الحروب والهجرات والأزمات الاقتصادية، ثم يبحث في الكتب عن تفسيرٍ أعمق لهذه العوالم. لذا نرى حضورًا لافتًا لعناوين تشتبك مع قضايا الذاكرة والهوية والعدالة الانتقالية واللغات المتداخلة، وكأن النشر بات مرآةً لعصرٍ مضطرب أكثر من كونه ترفًا ثقافيًا.

دار الساقي: بين الخرائط السياسية وقلق السرد

إذا انتقلنا من الصحيفة والمنصّة الرقمية إلى دور النشر الورقية، سنجد أنّ دار الساقي لا تزال تحافظ على صورتها كدار تجمع بين الجدية الفكرية وجاذبية السرد. فإصداراتها الجديدة خلال موسم أبريل/مايو/يونيو 2025 تكشف عن سلّة كتب متنوّعة، لكنها متجانسة على مستوى الأسئلة العميقة التي تطرحها. 

رواية «خمس منازل للّه وغرفة لجدتي» لمروان الغفوري مثال واضح على ذلك: نصّ يستعيد التسعينيات في اليمن، لكنه لا يغرق في الحنين، بل يلاحق أسئلة الإيمان والهشاشة الإنسانية، من خلال شاب يقرّر أن يسلك كل الطرق الممكنة إلى الله، ثم يكتشف أن المرض في جسد جدّته يختبر إيمانه ومخياله في آنٍ واحد. الرواية هنا ليست مجرّد حكاية عن قرية ومدينة، بل محاولة لرسم خريطة روحية لبلدٍ عاش على حافة الحلم والكابوس في الوقت نفسه. 

على الضفة الفكرية، تصدر عن الدار كتبٌ مثل «الفلسفة والسياسة» لعبد الإله بلقزيز، حيث يتتبّع المؤلف تطوّر مفاهيم الدولة والسلطة والمواطنة، ويقرأ في التحديات التي تواجه الدولة الوطنية العربية في ظل العولمة والحروب الجديدة، مانحًا القارئ العربي “أدوات تفكير” أكثر من مجرّد سردٍ تاريخي للأحداث. إلى جانب ذلك، تظهر ترجمات لكتب لافتة مثل «هزيمة الغرب» لإيمانويل تود، الذي يعلن في نبرةٍ صادمة أن الغرب يقف اليوم على حافة سقوطٍ حضاري، ويعيد قراءة الحروب والأزمات الديموغرافية والثقافية بوصفها مؤشّرًا على هذا التصدّع العميق. 

هكذا تواصل دار الساقي تقليدها القديم: الجمع بين النصوص الروائية التي تمتح من الواقع العربي، والكتب الفكرية التي تُترجم أو تُؤلَّف لتمنح شيئًا من “خريطة العالم” لمن يقرأ بالعربية، سواء كان في الرباط أو رام الله أو بيروت.

دار الآداب: الرواية العربية وتجديد صورتها

أما دار الآداب، فتبدو في السنوات الأخيرة كأنها تعيد تثبيت مكانتها كبيتٍ للرواية العربية، مع انفتاح واسع على الترجمة، وعلى نصوصٍ تحفر في الذاكرة الفردية والجماعية معًا. يكفي أن نتصفّح قسم «أحدث الإصدارات» في موقع الدار لنعثر على سلسلة عناوين تتجاور فيها غزة واليمن وتونس وأوروبا في مشهدٍ لغوي واحد.

«غزة الناجية الوحيدة» لغادة الخوري كتاب يعيد وضع العدسة على مدينةٍ تحوّلت إلى جرح مفتوح في الوعي العربي، بينما تأتي «أغنية التمر والتين» لعبد الله الحواس بنبرةٍ تجمع الشعر بالحكاية، وتتقدّم رواية «أيتها القبرة» للحبيب السالمي في سياق مشروع روائي طويل يلاحق تفاصيل الحياة المغاربية في علاقتها بالمنفى الأوروبي والذاكرة المتشظّية. إلى جانب ذلك، نجد «بياض الذاكرة» لناتاشا أبّاناه، و«تمويه» لعدنية شبلي، و«ثمرة النار» لحنين الصايغ، ونصوصًا مترجمة مثل «هناك أنهار في السماء» لإليف شافاق و«الحب المقلق» لإيلينا فيرّانتي، ما يعكس الرهان على تداخل اللغات والأفق الكوني للرواية. 

هذا المزج بين أصوات عربية وأصوات مترجمة ليس تفصيلاً تجاريًا؛ إنه إعلانٌ غير مكتوب بأن القارئ العربي اليوم لم يعد يرضى بعالمٍ مغلق على ذاته، وأن بيروت، رغم جراحها، لا تزال تحاول أن تكون جسرًا بين ضفّتي المتوسط: ضفّة عربية تبحث عن موقع جديد في العالم، وضفّة غربية تعيد طرح أسئلتها حول الديمقراطية والحرية والهوية، وتصل إلينا عبر الترجمة.

المغرب: من معارض الرباط وأصيلة إلى حضورٍ متزايد في المعارض العربية

في المغرب، تتكامل صورة المشهد مع ما نراه في هذه الدور والمنصّات. فمعرض الرباط الدولي للنشر والكتاب صار محطة أساسية لتقديم الإصدارات الجديدة لدور نشر مغربية وعربية في آن، مع حضورٍ متقدّم لكتب الفكر والفلسفة، كما لفتت تقارير ثقافية إلى أن كتب الفكر كانت في صدارة الإقبال خلال دورة 2025، إلى جانب كتب الأدب والعلوم الإنسانية. 

إلى جانب المعرض، يواصل «موسم أصيلة الثقافي الدولي» لعب دوره القديم/الجديد كفضاء لافتتاح الكتب، حيث احتفت الدورة السادسة والأربعون بثلاثة عناوين صدرت حديثًا، بينها كتابٌ عن «محمد بن عيسى: رجل الدولة وأيقونة الثقافة»، و«رحلة الحج على خطى الجد»، وكتاب «مسام جلد» الذي يمزج الصورة الفوتوغرافية بالشذرات النصّية. هذه الإصدارات لا تأتي من فراغ، بل تعبّر عن رغبةٍ مغربية في ربط النشر بالذاكرة المحلية وبسيرة المدن والشخصيات والتجارب التي صنعت ملامح الثقافة الوطنية. 

في الوقت ذاته، تخرج دور نشر مغربية إلى فضاءات عربية أوسع: المشاركة في معارض الشارقة والدوحة والقاهرة، كما في الدورة الرابعة والأربعين من معرض الشارقة للكتاب حيث برزت إصدارات مغربية جديدة من مختلف الأجناس، وهو ما أكدته تقارير إعلامية تحدّثت عن ترجمات جديدة وأعمال في الفكر والأدب تُعرّف القارئ العربي بالخصوصية الثقافية المغربية. 

دور النشر في الخليج ومصر والشام: تكامل لا تنافس

بعيدًا عن المثالين اللبناني والمغربي، يتواصل حضور دور النشر في الخليج ومصر وسوريا والعراق والأردن، عبر شبكة واسعة من المعارض والجوائز والسلاسل الجديدة. خريطة الإصدارات العربية كما تظهر في السنوات الأخيرة تكشف عن ظاهرة لافتة: الناشر الخليجي يتجه أكثر إلى دعم كتب الفكر السياسي والاقتصادي والحوكمة والذكاء الاصطناعي، إلى جانب أدب اليافعين وكتب التطوير الذاتي؛ فيما يصرّ الناشر المصري على استثمار ثقل القاهرة بوصفها عاصمة تاريخية للنشر العربي، عبر إعادة طباعة كلاسيكيات الفكر العربي والإسلامي، إلى جانب كتب عن رموز الفن والسينما والموسيقى، كما أظهرته مثلًا دورة 2025 من معرض القاهرة الدولي للكتاب التي أبرزت موجة إصدارات عن أعلام الفن المصري في مقدمتهم أم كلثوم. 

في سوريا ولبنان والعراق، رغم الحروب والأزمات، لا تزال دور مثل دار الفكر ودار المدى وغيرها تراهن على كتابٍ يمزج بين الذاكرة الوطنية والأسئلة الكونية، من خلال روايات عن المنفى والخراب وإعادة بناء الذات، أو دراساتٍ في تاريخ المدن واللغات والأديان. هذه الكتب تجد صداها في المنصّات الثقافية التي سبقت الإشارة إليها، إذ تتحوّل مراجعاتها وقراءات النقّاد فيها إلى امتداد افتراضي للمعرض والصالون والندوة.

خلاصة مفتوحة: كتابٌ يكتب نفسه من جديد

إذا جمعنا هذه الخطوط كلّها في صورة واحدة، سنجد أن جديد الإصدارات العربية اليوم لا يمكن اختزاله في قائمة عناوين، بل في شبكة من العلاقات: بين منصّات رقمية مثل «ضفة ثالثة» و«القدس العربي» ترصد وتقرأ، وبين دور نشر راسخة مثل دار الساقي ودار الآداب تعيد تشكيل كاتالوغاتها بين الفكر والسرد والترجمة، وبين دور نشر مغربية وعربية أخرى تُثبت حضورها في معارض الرباط وأصيلة والشارقة والقاهرة.

الكتاب العربي، في هذا السياق، لا يبدو كائنًا مهدّدًا بالانقراض، بل هو نصٌّ يحاول أن يتعلّم العيش في بيئةٍ جديدة: شاشة مضيئة، قارئ مشتّت، أسواق مضطربة، وحروب لا تنتهي. ومع ذلك، ما دامت هناك دور نشر تراهن على الجودة لا على الضجيج، ومنصّات ثقافية تقرأ بعمق، وقرّاء يواصلون السؤال بإلحاح، فإن “الضفة الثالثة” للكتاب العربي ستبقى مفتوحة: ليست ضفّة ورقية خالصة، ولا رقمية خالصة، بل مساحة مشتركة يتجاور فيها الحبر والحروف المضيئة، ليكتبا معًا فصلاً جديدًا من حكاية النشر في المغرب والعالم العربي.


0 التعليقات: