تبدو أوضاعُ المهاجرين العرب اليوم كأنّها خريطةٌ واحدة ممزقة بين القارات: حقوق تُكتسب بصعوبة، وخطابات كراهية تتصاعد، وقوانين أمنية تُضيّق كلّ يوم أكثر. في ما يلي صورةٌ مركّزة عن أوضاعهم في الدول التي ذكرتَها، كما تعكسها الأخبار والتحليلات خلال 2024–2025، ثم في النهاية أقدّم نسخةً ثانية من المقال بصياغة مختلفة أكثر “بشرية” في الإيقاع والأسلوب.
أوّلًا: الولايات المتحدة الأمريكية وكندا… بين الأمن والخوف والقدرة على المقاومة
في الولايات المتحدة عادت الجالية العربية، ومعها الجالية المسلمة عمومًا، إلى واجهة الجدل السياسي بعد تصاعد الحرب على غزة. تقارير منظمات حقوقية تشير إلى أنّ الاعتداءات وخطابات الكراهية ضدّ المسلمين والعرب وصلت في 2024 إلى مستوى قياسي تاريخي، سواء في جرائم الكراهية أو في البلاغات عن التمييز في الجامعات وأماكن العمل، خصوصًا مع اتساع رقعة الاحتجاجات المؤيِّدة لفلسطين في الجامعات الأمريكية.
سياسيًا، عاد خطاب “الأمن القومي” ليُستخدم ذريعة لتشديد شروط الدخول والإقامة؛ الإدارة الحالية أعادت إحياء منطق “حظر السفر” على رعايا عدد من الدول ذات الأغلبية المسلمة، وجرى تعليق البتّ في طلبات الإقامة والتجنيس لفئات واسعة من القادمين من دول صُنّفت “عالية المخاطر”، مع تخفيض سقف استقبال اللاجئين إلى رقم منخفض تاريخيًا لا يتجاوز بضعة آلاف سنويًا.
هذا يعني أن المهاجر العربي، حتى لو كان طالبًا أو باحثًا أو صاحب كفاءات عالية، يتحرك في مناخ من الشك والتدقيق الأمني المستمر، من المطار إلى قاعة الجامعة، مرورًا بمكاتب الهجرة وسوق العمل.
في كندا، الصورة أكثر التباسًا؛ فالدولة ما تزال تُسوِّق نفسها كوجهةٍ “إنسانية” للهجرة، لكن مشاريع القوانين الجديدة – وعلى رأسها مشروعا القانونَيْن C-2 وC-12 المتعلقَيْن بتشديد ضوابط الحدود، وإغلاق منافذ اللجوء غير النظامي، وتعزيز التعاون الأمني مع الولايات المتحدة – تنذر بتحوّل عميق في نظام الحماية واللجوء.
في المقابل، تعترف الحكومة الفدرالية، عبر تقارير وبرامج رسمية، بوجود إسلاموفوبيا بنيوية في قطاعات التعليم والصحة والإدارة، وتُطلق حملات ودلائل توعوية لمكافحة التمييز ضدّ المسلمين والعرب، لكن هذه المبادرات تبدو أحيانًا أبطأ من وتيرة تشدد السياسات الأمنية.
أما في مقاطعة كيبيك، فقد تعمّق الإحساس بالاستهداف لدى الجاليات المسلمة والعربية بعد تقديم مشروع قانون جديد (Bill 9) يَحظُر الصلاة في الفضاءات والمؤسسات العمومية ويُوسّع دائرة منع الرموز الدينية في أماكن العمل والخدمات، وهو ما اعتبرته منظمات عربية ومسلمة تقنينًا إضافيًا للإقصاء تحت شعار “العلمنة”.
ثانيًا: المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا… أوروبا بين “التضامن” وواقع التشدد
في المملكة المتحدة، وبرغم تغيّر الحكومة، تبدو السياسة تجاه الهجرة في مسار أكثر تشددًا؛ فالنقاش الدائر اليوم لم يعد حول “تسهيل إدماج المهاجرين”، بل حول كيفية خفض أرقام الهجرة، وتقليد التجربة الدنماركية في تشديد اللجوء، وخلق بيئة قانونية أقل جاذبية للقادمين الجدد. تقارير دولية تُظهِر أن أرقام طالبي اللجوء ما زالت أقل من نظيراتها في فرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا، لكن الخطاب السياسي يتجه نحو مزيد من القيود والربط بين الهجرة والتهديد الأمني.
بالنسبة للمهاجر العربي هناك، يعني هذا طول مسار التقنين، وتزايد صعوبة لمّ الشمل، واشتداد الرقابة على الفضاءات الجامعية والمساجد والجمعيات الخيرية.
في فرنسا، يعيش المهاجرون العرب – خصوصًا من أصول مغاربية – وضعًا مركبًا؛ فمن جهة، هناك مبادرات لتسوية أوضاع بعض العمّال غير الموثقين في قطاعات تعاني نقصًا، لكن من جهة أخرى تستمر موجة القوانين والقرارات التي تُضيّق على الوجود الإسلامي في الفضاء العمومي، من منع النقاب إلى حظر العباءة في المدارس، وصولًا إلى نقاشات برلمانية تريد منع الحجاب عن القاصرات في الفضاء العام، وهو ما انتقدته حتى أصوات من داخل الحكومة باعتباره تشريعًا يوصم فئة بعينها.
في ألمانيا، يتقاطع العامل الأمني مع ضغط اليمين المتطرف في إعادة تشكيل سياسة الهجرة. الحكومة الجديدة شددت الرقابة على الحدود ومددت العمل بالضوابط المؤقتة داخل فضاء شنغن، وشرعت في مراجعة قوانين اللجوء والجنسية، بما في ذلك تعليق لمّ الشمل لفئات من الحاصلين على حماية ثانوية، إلى جانب خطط لزيادة الترحيل، وكلّ ذلك تحت شعار “استعادة السيطرة على الحدود”.
هذا المناخ يُترجَم في حياة المهاجر العربي في شكل خوفٍ من فشل طلبات اللجوء أو سحب الإقامة، وتوترٍ متصاعد في الشارع مع صعود خطابات الكراهية.
في إسبانيا، يحمل المشهد تناقضًا واضحًا: فمن جهة، تتزايد محاولات الوصول عبر البحر، مع تسجيل عمليات إنقاذ متكررة في جزر البليار وغيرها، ومن جهة أخرى انطلقت إصلاحات قانونية تنظّم الهجرة الموسمية وتفتح مسارات للتشغيل القانوني في قطاعات مثل الفلاحة والسياحة، في محاولة لتحويل جزء من “الهجرة غير النظامية” إلى عقود عمل رسمية.
في المستوى الرمزي، أثار قرار بلدية إسبانية منع استخدام المرافق العمومية لإقامة احتفالات دينية للمسلمين (مثل الأعياد) صدمةً واسعة، واعتُبر خطوة تمييزية تُشجِّع الإسلاموفوبيا، وتُذكِّر الجالية العربية والمسلمة بأن وضعها يظل هشًّا أمام أي تحالف بين الشعبوية المحلية واليمين المتشدد.
إيطاليا تظلُّ بوابة رئيسية للهجرة عبر المتوسط، ما يجعلها ساحة توتر دائم بين منطق “أمن الحدود” ومنطق “إنقاذ الأرواح”. القوانين الأخيرة شددت القيود على سفن الإنقاذ التابعة للمنظمات غير الحكومية، وفرضت عليها مسارات ورسومًا وعقوبات تجعل عمليات الإنقاذ أكثر صعوبة، رغم أن المحكمة الدستورية الإيطالية ذكّرت، في قرار حديث، بأن أي تشريع لا يمكن أن يتعارض مع التزامات إيطاليا في القانون البحري الدولي لإنقاذ المهاجرين في عرض البحر.
ورغم أن بيانات الاتحاد الأوروبي تُظهر انخفاضًا نسبيًا في عدد طلبات اللجوء مقارنة بذروة السنوات السابقة، إلا أن الاتجاه العام في التشريعات يميل إلى تشديد الضوابط، وتوسيع إمكان إغلاق الحدود الداخلية مؤقتًا، وربط أي “تضامن” مالي أو إعادة توطين بمقاربة أمنية للهجرة.
ثالثًا: روسيا… المهاجر “كبش فداء” في ظل الحرب
في روسيا، تدفع الجاليات المهاجرة – خصوصًا القادمة من آسيا الوسطى والقوقاز – ثمن توظيف ملف الهجرة في سياق الحرب على أوكرانيا والصراع الداخلي. تقارير منظمات حقوقية توثق تصاعدًا حادًا في حملات المداهمة والاعتقال الجماعي، وحالات عنف وعنصرية ضد العمال الأجانب، مع سنّ حزمة قوانين تسهّل طرد المهاجرين أو إجبارهم على التوقيع في الجيش مقابل تسوية أوضاعهم.
الجاليات العربية في روسيا أقل عددًا من جاليات آسيا الوسطى، لكنها تتأثر بالجو نفسه: تدقيقٌ أمني في الجامعات، خوف من الطرد أو سحب الإقامة، وسوق عمل بات أكثر هشاشة للمهاجر غير المستقر، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية والعقوبات.
رابعًا: البرازيل… جالية عربية عريقة تبحث عن صوتٍ أرفع
في البرازيل، الوضع مختلف نسبيًا؛ فالعرب هناك ليسوا فقط مهاجرين جددًا، بل جزء من تاريخ البلاد منذ أكثر من قرن. ملايين من ذوي الأصول العربية – خصوصًا من لبنان وسوريا وفلسطين – أصبحوا جزءًا من الطبقة التجارية والسياسية والثقافية، ويحملون الجنسية البرازيلية، ويتحركون بوصفهم “برازيليين من أصل عربي” أكثر من كونهم “مهاجرين أجانب”.
المستجد اليوم هو محاولة تنظيم هذه الجاليات سياسيًا وإعلاميًا بشكل أفضل، سواء عبر بعثة جامعة الدول العربية في البرازيل، التي أنهت أخيرًا مهمة دامت سبع سنوات، أو عبر مبادرات إعلامية جديدة موجهة بالعربية من أمريكا اللاتينية إلى العالم العربي، بما يعكس رغبة في تحويل وجود العرب هناك من مجرد “شتات اقتصادي” إلى فاعل حضاري وثقافي له كلمته في قضايا المنطقة، من فلسطين إلى صورة الإسلام في أمريكا الجنوبية.
خلاصة عامّة: عرب العالم بين مطرقة الأمن وسندان الانتماء
إذا جمعنا هذه الصور المتفرقة، سنجد خيطًا مشتركًا يمرّ عبر واشنطن ولندن وبرلين وباريس ومدريد وروما وموسكو وأوتاوا وساو باولو:
-
من جهة، تضييقٌ قانوني متتالي تحت عنوان “محاربة الهجرة غير النظامية” أو “مكافحة الإرهاب” أو “حماية الهوية الوطنية”، يترجم إلى تشدد في منح التأشيرات، وتعقيد في إجراءات اللجوء، وتجريم لإنقاذ المهاجرين في البحر، وإغراءات للمهاجر ليلتحق بالجبهة بدل أن يبقى عاملاً أو طالبًا.
-
ومن جهة أخرى، يقظة متزايدة لدى الجاليات العربية – ومعها جاليات أخرى – في تنظيم نفسها، والدفاع عن حقوقها، وتوظيف الاحتجاجات العالمية المؤيدة لفلسطين كمنصة لطرح سؤال أوسع: ما معنى أن تكون عربيًّا ومسلمًا في عالمٍ يتأرجح بين قيم حقوق الإنسان والخوف من الآخر؟
في هذه الهوّة بين النص القانوني وحياة البشر، يعيش المهاجر العربي يومه؛ يشتغل، يدرس، يرسل الحوالات إلى أسرته، يشارك في التظاهرات أو يراقبها بصمت، يحاول أن يحمي أبناءه من عنف المدرسة والإعلام، وأن يبني جسرًا صغيرًا بين لغته الأم ولغة البلد المضيف، بين ذاكرة الوطن وواقع المنفى.








0 التعليقات:
إرسال تعليق