لا أعرف كيف تسلّل إليَّ هذا الشعور، وأنا أقلّب صفحات كتاب In the Swarm للمفكّر الكوري الألماني بيونغ تشول هان، بأننا لم نعد نعيش داخل فضاءات رقمية مجرّدة، بل داخل هواءٍ مُستعمَر، يشبه غبارًا غير مرئي، يتسرّب إلى أنفاسنا وطريقة رؤيتنا لأنفسنا وللآخرين، وحتى لأسلوب عيشنا اليومي. إن الكتاب، على قِصَرِه، يشبه صفّارة إنذار، لا يرفع صوته إلا بقدر ما نحتاجه لنفهم أنّ “السرب” الذي نندفع داخله قد لا يكون إلا شكلًا لطيفًا من الطغيان الجديد؛ طغيان بلا قسوةٍ ظاهرة، لكنّه محكم الحصار، دقيق، ويمتدّ مثل شبكة عنكبوت شفافة لا نشعر بوجودها إلا حين نفقد القدرة على الحركة.
يرى هان أنّ الإنسان الرقمي لم يعد كائنًا اجتماعيًا بالمعنى التقليدي، بل أصبح فردًا موزّعًا على شاشات، يتحرك بين صور وبيانات وتعليقات، يطارد “مرئيته” كما لو كانت مصدر وجوده الوحيد. في ثقافة السرب، كما يسمّيها، يتلاشى العمق، يهوي التأمّل، وتغيب مسافة التفكير التي كانت تمنح الذاتَ وزنها. كل شيء صار يحدث بسرعة تنفي إمكانية الفهم: كلمات تُقذف، آراء تُعاد، مشاعر تُباع بالجملة، ووجوهٌ تُستهلك حتى تنطفئ.
يقول هان إنّ الإنسان لم يعد يخشى الرقابة لأن الرقابة أصبحت رغبةً داخلية. لم نعد نخاف من “الأخ الأكبر” كما في جورج أورويل، بل أصبحنا نحن من نسلّم بياناتنا طوعًا، ونكشف لحسابات ومنصّات أكثر مما كشفناه لأقرب الناس إلينا. إننا لم نعد سجناء في سجن؛ نحن أنفسنا نبني السجن كل يوم بضغطات أصابعنا، بفرحٍ يشبه الخدر.
ولعلّ أجمل ما في المقالات القصيرة التي يتكوّن منها الكتاب أنّها لا تمنح القارئ راحةً فكرية. كل فقرة أشبه بوخزة. يذكّر هان بأنّ “الشفافية” التي نحتفي بها في عالم الشبكات ليست قيمة أخلاقية، بل آلية ضبط. كل شيء يجب أن يكون مكشوفًا، مبثوثًا، معلنًا، حتى يتحوّل الإنسان إلى سطحٍ أملس يمكن قياسه والتحكم فيه. إنّ الشفافية هنا ليست نورًا، بل ضوءًا ساطعًا يسطّح الأشياء، يقتل ظلّها، ويمحو أسرارها.
ثمّة صفحات في الكتاب تكاد تكون شعرية، حين يتحدث عن فقدان “الهالة”، ذلك المفهوم الذي استعار بعض جذوره من فالتر بنيامين. فالهالة هي ذلك العمق الذي يجعل الأشياء ذات قيمة. لكن السرب الرقمي يطمس الهالة لأنّه يساوي بين الأشياء، يجعل الصورة مساوية للأصل، والصوت مساويًا للصدى. كل شيء يصبح قابلًا للنسخ، للتداول، للابتلاع السريع، حتى تختفي المسافة التي كانت تمنح العالمَ سِحرَه.
لا يتوقف نقد هان عند هذه الحدود؛ بل يرى أنّ الخطورة الكبرى تكمن في تحوّل الفضاء الرقمي إلى معمل لصناعة “الغضب السريع”. إنّ وسائل التواصل، في رأيه، ليست ساحات للنقاش، بل مرايا للانفعالات. فبدل أن تُصنع السياسة بالتأمّل، تُصنع الآن بالاستثارة. وبدل أن تكون الكلمةُ جسرًا، أصبحت شرارة. وهكذا ينهار المجال العامّ كما تصوّره هابرماس، ويتحوّل إلى مسرح ضوضاء.
لكنّ الكتاب لا يكتفي بوصف العطب؛ بل يلمّح، بلطفٍ شديد، إلى ما يشبه الطريق للخلاص. يذكّرنا هان بأنّ الإنسان يحتاج إلى “الفراغ”، إلى تلك المساحة التي لا يقتحمها أحد، والتي يسمح فيها للصمت بأن يقوم بعمله الأزلي: أن يعيد تشكيل الذات. إنّ مقاومة السرب ليست في الانسحاب الكامل، بل في إعادة بناء علاقة هادئة مع العالم، علاقة فيها بطءٌ مُستعاد، ومسافةٌ من التأمّل، وشيء من العزلة التي لا تشبه الهروب، بل تشبه استعادة النفس.
وبين كل تلك الأفكار، يظلّ الكتاب صرخةً مكتومة لحماية الإنسان من نفسه قبل أن نحميه من التكنولوجيا. فكأنّ هان يريد أن يقول لنا إنّ الخطر الحقيقي ليس في الشبكات، بل في استعدادنا العجيب لأن نذوب فيها. وما لم نمتلك القدرة على التوقّف، على النظر إلى أنفسنا خارج الضوء الأزرق، سنظلّ نحيا كطيورٍ صغيرة داخل سربٍ كبير، تطير في الاتجاه نفسه، وتغرق في الازدحام نفسه… دون أن تكتشف أنّ جناحيها ما زالا قادرين على حملها بعيدًا، لو أرادت.








0 التعليقات:
إرسال تعليق