الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، أغسطس 15، 2015

مدارج البيت العتيق

مدارج البيت العتيق
ألفاهم قد رتبوا في ليل غيابه اوراق رحيلها... أما هي فقد باتت هناك في منسكها تغسل يديها من مكابدات العمر... متدثرة في إستارتها البيضاء المنسوجة بأنامل ملائكة مخفورة.. كانت تحصي ما تبقى من لحظات العمر.
هنا كان يتلمظ رغيف فطام متأخر.. يمزج كأس خطوها الفادح بالدمع الفائر. . وعلى جناح الطهر كانت ترمقه وتعلن له بالصمت عن زمن آت سوف يستودعه فيه الإنتظار إلى شرفة الترقب...كان التردد يستبد به وبها .. يوزعه بين الرغبة في الصد وبين رحيلها الطارئ الى مطافات الخلق المكين،. وعلى مقربة من السلالم كانت الحقائب تتربص بها وحذاؤها للخطو الكبير يغريها بالرحيل...
الوصايا تتشابك على الشفاه الواجمة.. بريق نظراتها يبلله بدمع التوسلات.. فجأة وجد نفسه متواطئا وحذرا في آن.. تصاريف الدهرهناك .. ذرف ما يكفي على كتفها الوراف.. كان يعبر الى جانبها الشارع الليلي المقفر.. وكانت هي تقتلع آخر الخطوات بتوجس بالغ...
كانت تحدثه وقسمات وجهها كأنه يوشك على البكاء . فجأة صارت الأسارير أخاديد لدمع مداهم.. حين ودعها في الناقلة كان مرة ينقرعلى زجاج الإغاثة ومرة يومئ لها بما يعتصر القلب من رعب خطوها الكبير.
رأى من حوله أطياف متلفعة في دثارالبدء .. ساحة محفوفة بأشجار التين والزيتون .. نظرات للدهشة.. واللغط يعلو كلما دنا موعد العناق الاخير.
كان النداء بالأسماء إعلانا ليتمهم المؤجل .. همس له جارقديم ( لاتكثرت بالفراق ، ففي تلك الأكناف للسكينة خيمة بحجم السماء).
كانت أرواح الذين رحلوا مترجلين أو على صهوات الفتوحات تتقد في ذاكرتها وتفتح دفتيها على تاريخ مغسول بدم القداسة... رنا الى الشارع الممتد أمامه في صمت رهيب.. أعمدة النيون عقد متألق على هامة الفجر.. وجدها تعبر هذا الارتداد التاريخي وهو يلوح لها بمديله عبر نافذة الإغاثة ويلاحق كالمخبول طيفها بالنظرة الواجلة.. حين صحا من دوخته الفاها قد مرقت مثل نيزك في أمداء السماء.
في لحظة ما .. خفتت الجلبة.. الفجيعة  التي نمجد فيها زمن الفراق.. وصارت بعدها كل المرئيات تهفو إلى التمثل بطيفها والبوح بأسمائه المتعددة.
عاد وحيدا يقطع البيداء في ليل الغياب.. وينحث تماثيل لرجال شيدوا جسرا للبيت العتيق.. كان يحيى غربتين: غربته هنا وغربتها هنالك... كيف عن لجسدها الواهن أن يركب هذا الجناح الواثق ويتركه لاستيهامات الارتياب على شرفة الإنتظار...؟
يذكرأنها كانت تنتفض بالهجران خلسة في فجر اللأعياد وحين كانوا يستفيقون بعدها يلفون فراشها مقصوص الجناح فيدرعون الدروب .. يسائلون أبواب الجارات عنها ثم يعودون وقد أيقنوا أنها قد اقتصت من سياط السقف بمكيدة الهروب...
كانت صورتها تؤاصره في الحظات لفقدان .. عمقها الأزرق.. بريق عينيها .. إهاب وجهها الذي تملى فيه معنى الكينونة...
ها هم الليلة جميعهم ينسجون حول طيفها حكايا رائقة .. يرفعون السماعة و يتوسلونها لها أن تغمرهم بصوتها الرؤوم.
مضى شهر ونصف.. ما أقسى أن يمرالعمر إلا شهرا ونصف.. جربوا فيه كل أنواع اليتم ورأوا كل تجليات الفقدان.
ليلة عودتها ، بات مسهدا كان يحصي بالنبض دقائق اللقاء.. فجأة رن الهاتف وأنبأه صوت ما عن موعد هبوط الطائرة .. صعد إلى السطح يترقب سريانها .. فرأى الأزل.. كل الأزل المهيب.. الأسطوري والغامض .. عتمة تطبق على حفافي المدينة.. كان في القلب شئ ما.. مثل لهاث دافئ عبق بأرواح النزول من ملكوت مدارج البيت العتيق... أحس أن كل الأزل قد نهض من رقاده وتهيأ له أنهم يرتعون خلفها في دروب السماء بأجنحة ملائكة صغيرة .. نورانيات وشفيفات.. يفتشون عن طيفها بين نثار الكواكب والنجوم..
صاروا يترنون بإمعان.. هو وحده كانت يداه مشتبكتين خلف ظهره .. يقطع السطح جيئة وذهابا وكأنه أكتشف للتو هذا العالم الملغز بعيني صبي ممسوس بالدهشة الآولى.
فجأة لمح مقصورة مضيئة تخترق الديجور وكاد يهتف للعالم أي أنها نازلة عبر درب الانبياء...
هذا إذا فجر آخر يزحف مسكونا بالأسرار...
انشق صدر السماء عن شعاع أبى إلا أن يترنم معه بالشدو ويرجع بالغناء نشيده الصباحي.
شرعت الاطياف المتعبة تهل عليهم من البوابة العريضة .. فجأة لمحها وشعر برغبة العمر الوحيدة في البكاء.. كانت رافلة في نصاعة المدارج السماوية .. تجر خلفها تعب الوهن والرحيل .. قال في نفسه : ياه ما لوجهها قد صار قمحي الإهاب.. لعله لون البدء الذي ينشده صلصال الخلق .

ضمها إلى صدره ..ضمها كثيرا .. كثيرا وكانت نظراتها هائمة في المرابع الخضراء.. وبيمينها سبحتها المرصعة بخرزات "الفيرونج" .. وهما يقولان ": سبحان الله"..سبحان الله..سبحان الله ..  

0 التعليقات: