الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، نوفمبر 10، 2015

أحقا كان الماضي زمنا جميلا؟ عبده حقي

أحيانا وفي ما يشبه الغيبوبة اللذيذة، تأسرنا صورة تذكارية بتفاصيلها السوداء والبيضاء حتى ولو خدشت صفاء ملامحها تخاريم الزمن وغارات الرطوبة المندسة في جوف الصوان. 
وأحيانا أخرى تأسرنا أغنية عاطفية.. وطنية أو ملتزمة وهي تعود بذائقتنا عشرات السنين إلى الخلف، فتفيض بعذوبة مقاماتها أحاسيسنا وترحل بنا إلى لحظة تاريخية موشومة في ذاكرتنا إلى الأبد.
إن أي لحظة تذكار قديمة قد نعتقد أنها شكلت محطة مهمة في عمرنا ونرتبط بها أيما ارتباط من دون أن نعي جيدا ما السر الدفين الذي يشدنا إليها أكثر من اللحظات الأخرى في كل السنين.
يعمد كثير من المهووسين بالماضي في لحظة انخطاف جوانية إلى النبش في خزائن الذاكرة الفردية أو المجتمعية، فيرج سهونا العميق بصور أو فيديوهات أغاني كلاسيكية مشفوعة بمقدمات أو تعليقات تشبه زفرة الأسف الملتهبة «آه .. آه.. من ذكريات الزمن الجميل» وعلى حين غرة تتدفق العشرات من نقرات (اللايك) المجانية بين قدميها مثل انقلاب عربة محملة بقوارير العطر المزيفة وباقات الورد البلاستيكية.
ونحن غارقون في دغدغة تلك اللحظة النوستالجية، ننسى أن نتساءل بكل موضوعية هل حقا كان ماضينا زمنا جميلا.. رائعا.. زمنا عشناه بلذة وبإرادة كما أردناه، لا كما حبكته أحابيل الزمن وشطحات الأقدار على مقياس سلم السعادة الإنسانية.
ترى ما الذي يجعل الإنسان العربي بشكل عام يلتفت دوما إلى ماضيه برؤية وردية جميلة؟ وكيف يفلح بدوره هذا الماضي الماكر المنكفئ على أسراره العارية أن يخدعنا بسرابه البعيد ووميض بريقه المفترض؟ وكيف يسمح الإنسان العربي لنفسه أن يجذف بمركبه المهترئ إلى «جزيرة الكنز» التذكارية بدل أن يستشرف المستقبل بكل عزم وإقدام؟
ما من شك في أن لانجذاب الإنسان العربي إلى ماضيه السحيق والتعلق بأهداب ذاكرته، بل والعربدة أحيانا بأناه البعيدة جدا أسباب سوسيونفسية وثقافية وتاريخية. إن هذه العودة إلى ماضي الطللي والتوقيع العلني وأمام الملء الفيسبوكي بأنه كان جميلا، على الرغم من آلامه ونكباته هو حنين إلى فاصلة من العمر اجتزأت من رصيد السنين بالإكراه القدري والطبيعي، حتى بتنا نخشى عليها من الضياع من خزائن العمر، على الرغم من أنه يستحيل أن نسترجعها كفائض سنوات جديدة.
والعودة أيضا إلى هذا الماضي هو بحث عن حلم يقظة تائه في تراكم العمر.. إنه حلم يشبه الضوء الهارب دائما إلى الوراء بعيدا في ماضينا الفردي والجماعي… هروب من اللحظة الراهنة باعتبارها لحظة مكاشفة صادمة، بل ومواجهة مع الواقع، كما هو لا كما تزيفه الذاكرة وزمنها الجميل المفترض.
فنحن لا نأسف على كوننا لا نملك رؤية واضحة للمستقبل المضبب وأسئلته القلقة والملحاحة وإنما نأسف على ماض ضاع منا أو ضيعناه من دون أن نحقق فيه حدا أدنى من مطامحنا، سواء كأفراد أو كمجتمع أو دولة. هكذا إذن جبلت ذهنية الإنسان العربي على العوم أو بالأحرى النوم العميق في عسل الماضوية وتاريخها التليد.. والانبهار بمعجزاته وفتوحاته وامبراطوريته التي غربت عنها الشمس بين أسوار غرناطة الجميلة وحدائق فردوسها المفقود.
إن العودة إلى هذا الماضي باعتباره ملاذا زمنيا جميلا ليس إلا أكذوبة مفخخة.. وسلوكا نقترفه عن وعي أو بدون وعي لإخفاء رؤوسنا في الرمل مثل النعامة، كيما نهرب بجلدنا من اللحظة الراهنة وحقائقها الضاغطة إلى اللحظة الهاربة في الماضي بجماليات بؤسها وخساراتها وهزائمها المختلفة…
ودعونا نتخيل مثلا أن المعجزة حدثت اليوم في زمن انتهت فيه المعجزات وعادت بنا عقارب الساعة عشرات السنين إلى الوراء فلا مراء أننا سنأسف كثيرا على تضييع حاضرنا في الثرثرة عن الماضي باعتباره أجدر بأن يعاش مرة أخرى بكل تفاصيله، ولو كانت سوداء وحزينة أحيانا.. إنها بكل تأكيد مصيدة النوستالجيا وأفيونها القوي ودوختها اللذيذة التي قد تلعب بذاكرتنا لعبة التنويم المغناطيسي الطويل. صحيح أن حاراتنا العتيقة كانت تزداد ألفة وحميمية كلما زدادت حيطانها ضيقا، وأن الجيران كلما ازداد فقرهم تقوت أواصر التضامن والإيثار بينهم لمواجهة آفة الجوع القاتل ومكابدات الحياة القاهرة، عكس ما كنا نسمعه ونعرفه عن حارات الأوساط البرجوازية، يوم كنا شبابا يافعين نصعد الطريق الشاق مشيا على الأقدام من حارتنا العتيقة إلى قارة الحارة البرجوازية في المدينة الجديدة «لا فيل نوفيل» وكنا نعاين عن كثب ذلك البون الشاسع شساعة السنوات الضوئية بين صخب حاراتنا وسوريالية هندستها وضيق حوانيتها وعبثية مقاهيها ومدارسها التي تلفظ الجيوش العرمرم من التلميذات والتلاميذ الأشقياء الذين كانت أقصى أحلامهم أن يصبحوا سعاة بريد أو معلمين أو ممرضين أو جنودا يذودون عن حوزة الوطن، وبين هدوء تلك الحارات البرجوازية الراقية وفيلاتها الباذخة وحراسها المتعبين الرابضين أمام البوابات الحديدية العريضة ليل نهار، وسياراتها السوداء الفارهة وحدائقها الفيحاء وأسراب عصافيرها التي تمرح بين أغصان الأشجار الظليلة وأطفالها الشقر المدللين والبدينين الذين يلهون على الأرجوحات أو يطوفون حول المسابح الزرقاء بالدراجات الهوائية الثلاثية… كنا نكتشف في تلك الفسحة الحالمة كل التفاصيل الظاهرة لهذه الفراديس والجنائن الجميلة ولم نكن نشعر قط بأي حقد طبقي أو بأي عقدة حرمان، بل كنا نقفل بعد ذلك التطواف المتعب اللذيذ عائدين إلى حاراتنا الضيقة الراتعة في البؤس لنحكي للأصدقاء في (راس الدرب) عن رحلتنا تلك في قارة «لافيل نوفيل» بكل غبطة وسعادة مستعارة.
إننا ننسى كل ذلك الآن.. فنتحدث اليوم بتلمظ يسيل اللعاب عن وجبتنا الشعبية الكادحة ـــ خبزنا الحافي وكأس الشاي ـــ بلذة وشوق غريبين وعن الصندال البلاستيكي المنخلع وعن وهم رغد العيش في زمن القلة مع فائض البركة السماوية، على الرغم من أننا اليوم لا يعاني السواد الأعظم من مجتمعنا من سوء التغذية ولا من بؤس التلفع في السراويل المرقعة ولا عن الصدور العليلة التي ينخرها مرض السل، ولا عن سيقان الأطفال التي يحصدها الشلل و..و.. وعلى الرغم من كل هذا الحاضر الراقي نسبيا، ما يزال كثير من الماضويين يتحدثون وبالزفرات الحرى عن ماضينا البائس الجميل والرائع، لكن بالإكراه النوستالجي ليس إلا.

كاتب مغربي
عبده حقي

0 التعليقات: