الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، أكتوبر 31، 2016

الشهيد المهدي بنبركة بعيون كتاب ومبدعين من جيل ما بعد اختطافه أعد الملف: سعيد عاهد


أعد الملف: سعيد عاهد
تحل يومه السبت 29 أكتوبر ذكرى اختطاف الشهيد المهدي بنبركة بباريس سنة 1965.
وإذا كان الجيل الأول من الكتاب والمبدعين المغاربة (جيل خمسينيات وستينيات القرن الماضي) قد عايش المهدي بنبركة، فالأجيال اللاحقة لم تتعرف عليه مباشرة، وإنما تأثرت بصورته في المخيال الجماعي وبأثره الفكري.
انطلاقا من هذا المعطى، نخصص هذا الملف لكتاب ومبدعين من الأجيال الأخيرة المعنية، انطلاقا من المحاور التالية:
+ ماهي ظروف تعرفك على إرث وصورة وتاريخ الشهيد المهدي؟
+ كيف تمثلته حينها وتمثلت اختطافه واستشهاده؟
+ ما درجة حضوره في كتاباتك وإبداعك سابقا وآنيا؟
وتجدر الإشارة إلى أن توظيفنا لمفهوم الجيل والمجايلة في هذا الملف ينطلق من اعتبارات إجرائية فقط، وليست له حمولة دلالية أخرى.

نظرة المهديعزيز أزغاي
رأسي سقطت في الرابع نونبر من سنة 1965 في مدينة الدار البيضاء، أي بعد أسبوع على وقوع أشهر اختطاف في تاريخ المغرب الحديث للمناضل المهدي بنبركة، الذي كان ولا يزال يعتبر أحد ألمع وأنشط أعضاء أسرة الحركة الوطنية واليسار المغربي بدون منازع.
على أن بعض تفاصيل هذه الجريمة متعددة الجنسيات سوف لن تتوضح لي إلا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين أصبحت عضوا في شبيبة الاتحاد الاشتراكي. وقد رافق هذه الدهشة الأولى، دهشة التعرف على أصدقاء جدد وعلى خطاب مختلف عما تعودت على سماعه في حياتي العائلية والخاصة، أسئلة تطمح إلى مزيد من الاطلاع والمعرفة على تاريخ الهيئة التي صرت أنتمي إليها.
أول شيء أثارني كان هو بورتريهات عدد من الشخصيات التي كانت تزين جدران المقر الذي أنتمي إليه وعدد من المقرات الأخرى، التي أتيحت لي فرصة زيارتها لاحقا. وسوف أعرف، فيما بعد، بأنها صور بعض مناضلي الاتحاد، وهم المهدي بنبركة، عمر بنجلون ومحمد كرينة، على أن القاسم المشترك بينهم أنهم ماتوا ميتة غيلة. الأول اختطف من قلب العاصمة الفرنسية باريس يوم 29 أكتوبر من 1965 ولم يظهر له أي أثر إلى اليوم، والثاني أغتيل أمام منزله بتاريخ 18 دجنبر 1974، من طرف عناصر تنتمي للشبيبة الإسلامية، فيما توفي كرينة جراء التعذيب الذي تعرض له بأحد مخافر شرطة مدينة أكادير يوم 24 أبريل 1979 بسبب مواقفه السياسية.
إلا أن المصير المجهول الذي ميز حياة المهدي بنبركة يبقى علامة فارقة، مقارنة مع المصير المعروف، الذي لقيه كل من بنجلون وكرينة. ذلك أن الروايات التي حيكت حول هذا الاختطاف قد تجاوزت حد الحقيقة لتتصل بالخيال. والسبب، يرجع إلى تلك المكانة الخاصة التي كان يحظى بها المهدي، ليس فقط على المستوى النضال الوطني، وإنما أيضا على صعيد حركة التحرر العالمي، وهذا موضوع يعرفه العالم.
إلا أن ما كان يثيرني في شخصية المهدي، الذي ولدت بعد اختفائه بأسبوع، ليس فقط سيرته الشخصية اللامعة، وإنما تلك الكاريزما الطاغية، التي كانت تستثيرني وهي تنبعث من إحدى صوره الشهيرة، التي كانت وما تزال تزين مقرات حزب الاتحاد. يتعلق الأمر بذلك البورتريه الذي أخذ له وهو شارد يبدو شارد الذهن، يتكئ على جدار يحمل زخارف الزليج المغربي التقليدي.
ففي هذه الصورة تبدو نظرة الرجل مزيجا من الحدة المخيفة والتأمل العميق والشرود الذي يرافق لحظات التفكير الصارم في أمر ما. كيف لا وهو الذي عرف بذكائه الحاد وفطنته النادرة. إنها نظرة تعكس طبيعة البركان الآدمي الذي كانه. فقد كان، على حد تعبير أحد رفاق دربه، ماكينة أفكار ومشاريع وتطلعات، يفكر في أكثر من فكرة وموضوع وقضية دفعة واحدة، بما يختزل طبيعة تفكيره الرياضي ( من الرياضيات ) ودقة منهجه، وفوق هذا وذاك اختياره الاصطفاف إلى جانب الضعفاء والمقهورين من أبناء شعبه وشعوب العالم. هذا الانحياز للوطن، الذي كان يحلم به، تكاد تجسده تلك القطعة من الزليج المغربي الأصيل، التي تسند ظهره كخلفية للبورتريه الذي التقط في غفلة من انتباه المهدي، سيصبح، مع اتساع هامش الغموض الذي يلف اختفاءه، أيقونة تحيل على أحد أكبر أسرار المغرب، التي لا تزال بحاجة إلى بعض الشجاعة السياسية والأدبية للكشف عن كل تفاصيلها، التي حدثت في أحد أيام الشمال السوداء.


المهدي المنتصر
عبده حقي
مما لا شك فيه، وهذه شهادة لـله وللتاريخ، أن أذني إلتقطت إسم الشهيد المناضل المهدي بنبركة أواسط الستينات وكنت وقتئذ طفلا صغيرا في سنتي الأولى من التعليم الإبتدائي.. لاأذكر بالتحديد في ذلك العمر أين ومتى حدث ذلك بالضبط وهل كان خبرا جرى باقتضاب بين أفراد العائلة أم عند حانوت الخياط التقليدي في رأس الدرب الذي كنت أساعده بضفر البرشمان أيام العطل ، أم عند حلاق الحومة ، كل ما أذكره على بعد مايناهز خمسين سنة خلت هو همس وكلام خفيض يروج عن رجل سياسي وطني عظيم وزعيم إسمه (بنبركة) إغتالته أيادي المكروالخيانة، ولم يكن رأسه هو المطلوب بحمولة شغبه السياسي وأفكاره الثورية بل كان المطلوب أساسا هو حلم المشروع النهضوي العالم ثالثي التواق إلى استقلال حقيقي وليس إستقلال وهمي...
ومنذ تلك اللحظة الملتبسة التي إلتقطت فيها أذني إسم (بنبركة) مكثت صورة الرجل ــ وأي رجل ــ غامضة ومعلقة بدمائها وآخر زفراتها في جهة ما من الذاكرة والقلب إلى أن ساقني سبيل الثقافة وبدايات الكتابة وعلاقتهما الجدلية بالوجع السياسي المغربي في سبعينات القرن الماضي إلى تمثل بروفايل كاريزمي للفقيد من خلال بعض المقالات المنفلتة من تحت مجهر الرقيب هنا وهناك، وأحاديث الأصدقاء والاحتفاءات السنوية على صفحات جريدتي المحرروالإتحاد الإشتراكي لتخليد ذكرى الإختطاف المشؤوم في 29 أكتوبر من كل سنة، مما جعل الصورة تكبر أكثر فأكثر لتصير ليس بحجم المغرب أو العالم العربي فحسب، وإنما بحجم العالم الثالث من كوبا غربا حتى الفيتنام شرقا ومن شمال إفريقيا حتى بريتوريا جنوبا ، العالم الثالث الحالم بالتحرر بزعامة بنبركة وغيفارا وماوتسي تونغ وغيرهم...
لم يكن اغتيال الشهيد المهدي بنبركة جريمة عادية كما كنت تمثلتها في طفولتي على غرار عشرات جرائم القتل والسيبة التي كانت تقع في مدينة مكناس غداة فوضى الفراغ التي أعقبت الاستقلال والغياب شبه التام لمؤسسات الدولة بل كانت جريمة في حق مشروع سياسي مغربي وعربي وإفريقي وعالم ثالثي كبير وطموح لم يتحقق إلى اليوم، ولن يدركه هذا الربيع العربي الملغوم ...
وأعتقد أنه لو كان المهدي بنبركة رحمه الله حيا يرزق اليوم، لكان المشهد السياسي والحزبي بالمغرب على درجة متقدمة جدا على مستوى المؤسسات والممارسة الديموقراطية الحقيقية، وليس على هذه الدرجة الدنيئة من اللهاث خلف الحقائب أو الكراسي الوثيرة ...

بنبركة والمثقف التقدمي
عبد الدين حمروش
من بين أهم الصفات التي ارتبطت بشخص المهدي بنبركة، أنه ظل دائب النشاط والحركة بشكل مثير إلى آخر يوم من أيامه. ولعل معظم من يرى مختلف صوره اليوم، بالأبيض والأسود، يكاد ينتهي إلى أن ما يميز ملامح وجهه حركاتُ عينيه النفاذتين الثاقبتين، اللتين سرعان ما تخترقان الرائي بنشاط حركتهما، واتساع مدى رؤيتهما، على الرغم من صِغَر محجريهما.
كان الرجل يتمتع ببعد نظر كما يقال، في ضوء ما تؤكده تجربة الحياة لديه، وإن انطوت قصيرة جدا في عمرها. ويبدو أن الانطباع الأول، الذي تخلفه إطلالتنا على صور المهدي، وإن من باب الحدس، هو ما تؤكده كثير من ملاحظات من رافقوه قيد حياته. وقد شبهه، لذلك، العلامة المختار السوسي في كتابه» معتقل الصحراء» بفرس امرئ القيس، رابطا إياه بعبــارة « مِكرّ مِفرّ مُقبل مُدبر معا». وقد قصد السوسي من خلال تشبيهه ذاك، بطبيعة الحال، نشاط بنبركة وحيويته، اللتين ملأتا المعتقل الذي ضمهما بأغبالو نكردوس، رفقة آخرين من الوطنيين، سنة 1953. ومن فرط إعجابه بشخص المهدي، جعل العلامة يثني عليه، ويدعو له بعبارات مثل «وأنا أُكبِر هذا الشاب، وأرى له مستقبلا، وكم دعوت لله له أن لا ينقصه شيء، وإلى الآن لا أيأس من فضل ربي عليه»
إن حركية بنبركة الذهنية- الجسدية، كانت تلتفّ على قِصر قامته، بطريقة تجعل منه قوي الحضور، ذا كاريزما لافتة، بالمقارنة مع من كانوا يحيطون به. وإذا أردنا تمثل درجة حركيته المذهلة، من خلال استعراض جوانب من شريط حياته، سنجد أن عمره القصير جدا- 45 سنة ليس غير- انطوى على غنى لا نظير له، من حيث تعدد التجارب والمبادرات لديه. كان مُقدَّرا لعمره القِصَر، ولذلك ألفيناه يختزل المسافات بسرعة قياسية، مَكَّنتْه من أن يعيش مخاض انبثاق مغرب جديد في مختلف تفاصيله، من قبل الاستقلال ومن بعد.
وإذا اتفق أن الأستاذ علال الفاسي مثل المثقف العضوي في جانبه الفكري- الأدبي بالخصوص، فإن المهدي بنبركة الشهيد مثل نفس المثقف في عمقه بأدواره السياسية والاجتماعية، وبالتالي في حركية التحامه الوطني بالقوى الشعبية الحية في البلاد وقتذاك. فعلى الرغم من اندراجه ضمن الرعيل الثاني لجيل الوطنيين، بعد علال الفاسي وأحمد بلافريج ومحمد اليزيدي وغيرهم، إلا أن التحاق المهدي بالحركة الوطنية في سن أربع عشرة سنة، مكّنه من تسجيل حضوره في جميع المبادرات التي شهدتها الحركة الوطنية، ابتداء بما سمي كتلة العمل الوطني، وإن عبر المرافقة اللصيقة لزعمائها.
كُتب لحياة المهدي أن تتوقف مبكرا، على الرغم من أنه كان ما يزال في متوسط شبابه وعطائه. والحقيقة أن المهدي تعرض لمحاولتي اغتيال:
أ- الأولى رمزية فرضت عليه الغيبة، اختياريا أو اضطراريا، في المنفى مرتين على التوالي، تلافيا للاعتقال من قبل النظام من جهة، وتلافيا لاستمرار سقوط العلاقة مع الجهاز النقابي لاتحاد المغربي من جهة ثانية. ولأن المهدي ظل يعرف كيف يوجه مسار الأحداث، وضمنه مسار حياته، فإن محاولة الاغتيال الرمزي سرعان ما باءت بالفشل، بفعل قراره إعطاء نضاله بعدا عالميا، من خلال الانفتاح على نضالات الشعوب في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية .. ضدا على الاستعمار، الإمبريالية- الصهيونية، والرجعية في كل مكان. هكذا، نجح المهدي في أن يخط لنفسه قدرا آخر، منفلتا من عنق الزجاجة، باتجاه عالم يسع مختلف تطلعات الشعوب في الحرية، الكرامة، والديمقراطية.
ب- الثانية مادية أسفرت عن وفاته، عبر تحالف مختلف القوى، الرجعية في الداخل والامبريالية- الصهيونية في الخارج. فبعد اختطافه بتاريخ 29 أكتبر 1965 بباريس، سيفتقد العالم الحقيقة عن مصير حياته إلى يومنا هذا. والواقع أن رأس المهدي، المقصود عقله، كان مطلوبا لأكثر من جهة. وإن كتب على دمه أن يتفرق بين الشعوب والقبائل، إلا أن روحه الوثابة المتطلعة، باستمرار، ظلت تهجس باتجاه واحد: الملايين من فقراء العالم وبؤسائه. إن غيبة بنبركة الثالثة، هي غيبة للمهدي بكل ما صار يحمله من رمزية تاريخية، على اعتبار « أن المناضل المهدي بنبركة لم يكن شخصا عاديا. ولذلك فإن الجريمة المرتكبة ضده لا يمكن أن تكون جريمة عادية».
هوامش:
1 - محمد المختار السوسي، معتقل الصحراء، الجزء الأول، مطبعة الساحل، الطبعة الأولى، الرباط، 1982، ص. 211.
2 - سبقت، حدث الاغتيال بباريس بسنوات، محاولة أخرى تعرض لها، رفقة المهدي العلوي، بين الرباط والدار البيضاء، من خلال الاعتداء الذي انتهى إلى قلب السيارة التي كانا على متنها.
3 - الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، من الاتحاد الوطني إلى الاتحاد الاشتراكي، وثائق حزبية، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1975، ص.92.

0 التعليقات: