الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، نوفمبر 30، 2017

قراءة في كتاب "تاريخ علوم الموسيقى عند العرب وعند العجم " للدكتور أحمد رباع أنجزها : عبده حقي

عبارة "علوم الموسيقى " كما جاء في ظهرغلاف هذا المؤلف القيم " تشير إلى القواعد العلمية التي تتعلق بالإصغاء أوالسمعيات Acoustique والتي تشرح نظرية ومبادئ الموسيقى كالسلم
والمقامات والمركبات Accords  والهارموني ... أسسها علماء عرب وفرس بين القرنين 9 و13 م أبرز هؤلاء الكندي والفارابي وابن سينا والأرموي ومن جاؤوا من بعدهم في أوروبا خلال عصر النهضة وكانوا قساوسة ورهبانا وليس علماء وقد ارتكبوا أخطاء تركت آثارها في موسيقى الغرب إلى يومنا هذا "
وللوهلة الأولى عند تصفح الكتاب أو حتى السماع بعنوانه يتبادر إلى ذهن القارئ أن الدكتور أحمد رباع متخصص أكاديميا في علوم الموسيقى بأحد المعاهد العليا في المغرب أوخارجه بينما تشيرواجهة الكتاب فالدكتور أحمد رباع أستاذ مادة الفيزياء بكلية العلوم بالدار البيضاء حاصل على دكتوراه الدولة في علوم المواصلات اللاسلكية في فرنسا سنة 1987 ومتخصص في الرادار وحاصل أيضا على ديبلوم في آلة البيانو، وله اهتمامات وأبحاث في علوم الإصغاء والسمعيات وقد ألف في هذا المجال كتابين صدرا عن دار "هارماتان" سنة 2015 . وفي جانب آخر فاهتمام الدكتور أحمد رباع بعلوم الموسيقى قد أهله إلى خوض المغامرة الإبداعية حيث لحن عدة قصائد من بينها بعض الرباعيات من قصيدة "المواكب" للشاعر جباران خليل جبران .
يضم هذا الكتاب 12 فصلا استهلها المؤلف ب"مدخل إلى علوم الموسيقى" وفيه كشف عن ريادة العرب في وضع القواعد الأولى لعلوم الموسيقى قبل قرون .. يقول في الصفحة 3 : الفضل الكبير في وضع قواعد الموسيقى ونظريتها بطريقة علمية يرجع للعرب . لقد ساهم علماء أجلاء في ميدان علوم الموسيقى وتركوا كتبا قيمة لازالت شاهدة على التقدم الفكري والعلمي والفني الذي وصلت إليه الحضارة العربية والإسلامية . هؤلاء كان لهم إلمام بممارسة الموسيقى كل حسب مستواه ، أبرزهم الكندي ، الفرابي ، الأرموي ، اللاذقي ، الجرجاني وبن سينا ومعروف بكونه أيضا طبيبا لكن موسوعته تضم جزءا مهما في موضوع علوم الموسيقى .
باقي فصول الكتاب تمحورت أساسا حول تطور بعض المصطلحات والمفاهيم التقنية والعلمية المتعلقة بعلوم التأليف الموسيقي ومصادرها واشتقاقاتها وتعريفاتها كالسلم والمقامات وعلاقة الموسيقى بعلوم الإصغاء .. إلخ
أما الفصلان الخامس والسادس فقد ركز فيهما المؤلف على تطور علوم الموسيقى عند قدماء العرب ثم في أوروبا ، فيما تمحور الفصل السابع حول الموسيقى الأندلسية المغربية . وقد توزعت فقرات هذا الفصل إلى ثماني فقرات استهلها المؤلف بتوضيح يشير فيه إلى تعدد مصطلحات هذا النوع من الموسيقى في المغرب الكبير. ففي المغرب الأقصى يسمى "طرب الآلة" وفي الجزائر يسمى "الطرب الغرناطي" وفي تونس فيسمى "المالوف" . ويقترح المؤلف حذف صفة " أندلسية " وتعويضها ب "غناء النوبة " مستندا في ذلك إلى معطيات تاريخية تعود إلى سقوط غرناطة سنة 1236 م .
أيضا اهتم هذا الفصل السابع الهام جدا بتجربة رواد الموسيقى العربية أمثال بن باجة وأبو الصلت وإسحاق الموصلي وتلميذه زرياب الذي هاجر إلى قرطبة وحظي هناك برعاية الخليفة الأموي عبدالرحمان الناصرالذي ساعده على تأسيس مدرسة " دار المدنيات " لتعليم الغناء والموسيقى سنة 825 والتي كانت أول مدرسة في العالم لتلقين مبادئ الموسيقى في وقت لم يكن هناك وجود لهذا الفن في أوروبا . كان زرياب يلقن تلامذته أداء الأصوات ابتداء من الجواب وهبوطا إلى القرار وهو مانسميه حاليا "صولفيج".
وفي رحلة ممتعة ومضوعة بنكهة العراقة يحط بنا هذا الكتاب بأعرق حضارتين في الشرق الأقصى وهما الحضارة الهندية والحضارة الصينية حيث أفرد لكل واحدة منهما بابا خاصا . فبعد بسطه للروافد التاريخية لموسيقى هذين الإمبراطوريتين انكب من الجانب النظري على النبش في أركولوجية المصطلحات والمفاهيم والعلامات التي تأسست عليها المقامات والأساليب الموسيقية هناك كأسلوب "الراكا" وهو نمط يدل على الأسلوب الآلي الأصيل في شبه القارة الهندية ويتكون من عدد من المقطوعات تقدر بحوالي 400 كل واحدة منها تحمل اسم المقام الرئيسي وأحيانا إسم ملحنها .
في فصل "الموسيقى الشرقية المعاصرة " نوه المؤلف بأعمال المستشرقين الذين كان لهم الفضل الكبير في إحياء ودراسة علوم الموسيقى عند قدماء العرب واكتشفوا وجود السلم العربي الأصيل ذي 17 درجة الذي ابتكره بن سينا في القرن 11 وقننه من بعده سراج الدين الأرموي في القرن 13 م والذي بقي مستعملا إلى حدود القرن 19 م .
"الموسيقى المعاصرة" كان هو آخر فصل من فصول هذا العمل التوثيقي والفني الهام جدا فقد خصصه الدكتور أحمد رباع للموسيقى المعاصرة في الغرب وكيف شهدت تحولا من الموسيقى العليمة التي كانت موجهة لفئة معينة في المجتمع كالملوك والأمراء والنبلاء والنخبة وكبار القوم إذ كانت لديهم فضاءات خاصة لممارسة هذا الفن مثل الفضاءات العمومية الشاسعة والقصور إلى موسيقى متحررة جعلت الملحنين لاينصاعون إلا لقريحتهم وإحساسهم مما أفضى إلى إبداع أسلوب جديد يسمى "القصيد السيمفوني" الذي ازدهر كما يقول المؤلف سنة 1900 وأنتج معزوفات غاية في الروعة .
غير أن هذا الأسلوب السيمفوني يضيف المؤلف بدروه سرعان ما تغير تحت تأثير العولمة واكتشاف موسيقات الشعوب ... إن هذا التحول المعاصر في الموسيقى الغربية يقول قد أنتج عدة تيارات ومدارس في إطار صعود موجة النيوكلاسيك التي تعتمد على الإحساس والذوق والجمالية عوض التقنيات والقواعد العلمية . وقد بلغ هذا التيار أوجه مابين الحربين العالميتين أي من 1920 إلى 1940 حيث انكب بعض الملحنين على البحث في الأعمال القديمة ومحاولة تقليدها أو اقتباسها لأنها تحتوي على مكونات وأنغام جميلة .
يأتي إذن صدور كتاب "تاريخ علوم الموسيقى عند العرب وعند العجم " للدكتور أحمد رباع في وقت ما أحوجنا فيه مجتمعا ومؤسسات تعليمية وفنية إلى ثقافة موسيقية موسوعية عالمة إذ لا يمكن من دون شك علاج وتقويم تدهور موسيقانا الراهنة سوى بوضع قواعد وبرامج موسيقية علمية ضمن مخططاتنا التربوية وإغناء معلومات وثقافة الناشئة في التعليم الأولي والعالي وبالتالي في الأوساط الإجتماعية ككل بهكذا إصدارجديد ووازن ... فهل ستحتفي به الجهات الوصية على الثقافة والتعليم ببلادنا  باعتباره مرجعا هاما لامندوحة عنه في إغناء مكتبتنا الفنية في المغرب والعالم العربي ؟




0 التعليقات: