لم يكن راضيًا عن العالم الأثيري الذي رسمته أشعاره؛ كان يتوق إلى تجاوز حدود إبداعاته الشعرية والشروع في رحلة شاقة لكتابة الرواية. وكان هذا الطموح بمثابة البذرة الغامضة التي زرعت في أعماق تربة خياله الخصبة.
في كل ليلة، كان يتقاعد في كوخه الصغير، المزين بأرفف مكدسة كثيرا بمجلدات وضوء شموع وامض يلقي بظلال راقصة على الجدران الورقية. كان سريره عبارة عن أداة قديمة بصرير معلوم ، موضوعة تحت نافذة مقوسة يتدفق من خلالها ضوء القمر، نهرًا فضيًا من الإلهام. وهناك، في هدوء الليل، كان ينجرف إلى عالم يتشابك فيه الواقع واللاواقع.
في أحلامه، وجد نفسه
يتجول في الممرات المتاهة لمكتبة ضخمة، حيث تمتد أرففها إلى ما لا نهاية في
السماء. يحمل كل كتاب عالمًا خاصًا به، وكان يمد يده ليداعب أشواكه، ويشعر بنبض
القصص وهو يتدفق من بين أطراف أصابعه. همست الكتب في أذنيه بأسرار، حكايات عن
حضارات منسية منذ زمن طويل، عن نجوم واعية ألّفت مقطوعات سمفونية، وعن عشاق
يتواصلون مع نسيج الوجود ذاته.
ولكن وسط هذا
الحرم الأدبي، أشار إليه مجلد غريب، صفحاته مفعمة بالألوان والكلمات المتغيرة التي
تتراقص مثل اليراعات في عشية منتصف الصيف. وكان يحمل عنوان "سجلات
العبث"، وعندما فتحه ، تم نقله إلى صفحاته.
في العبث، خضعت
قوانين الواقع لأهواء الخيال. غنت الأشجار الأوبرا، ولعبت السحب الشطرنج بصواعق
البرق. التقى بثعلب ناطق يُدعى المكر، الذي نصحه بالبحث عن ملهمة اللاتقليدية
المراوغة لكتابة روايته. بتوجيه من الثعلب، انطلق في مهمة عبر مناظر طبيعية تتحدى
المنطق - غابة من الجزر العائمة، ومدينة مصنوعة من الزجاج اللامع، وصحراء حيث
يتدفق الزمن عائدا إلى الوراء.
كل لقاء، وكل
تطور ، كان يغذي خياله . لقد اكتشف شخصيات لم تكن مجرد حبر وورقة، بل كانت كيانات
حية تتنفس وحوارات يتردد صداها مع الاهتزازات الكونية للغرفة. وبينما كان يجتاز
هذا العالم الذي يشبه الحلم، بدأ في نسج حبكة روايته، وهي قصة تعكس غرابة وجمال
العبثية.
ولكن مع اقتراب روايته
من النهاية، أدرك أنه فقد الحدود بين الحلم والواقع. لقد أصبح سكان البلدة قلقين
عندما تمتم بشأن الجزر العائمة، والثعالب الناطقة، وإلهام اللاتقليدية. همس البعض
بأنه فقد عقله، بينما تعجب آخرون من التوهج الغامض الذي بدا وكأنه ينبعث من كيانه
ذاته.
في إحدى الليالي
، بينما كان يكتب السطور الأخيرة من روايته، شعر بالتقارب بين عالم أحلامه وعالم
اليقظة. وفي موجة إلهام مذهلة، أكمل القصة، عندئذ تلاشت الحدود بين العالمين.
أصبح كوخه بوابة
إلى الحكي ، ووجد سكان البلدة أنفسهم مشاركين غير مقصودين في السرد الملغز الذي
صاغه. الواقع ملتوي ، حيث طارت المنازل، وجرت الأنهار صعودا، وأصبحت الجاذبية مجرد
اقتراح.
في هذه الدوامة الملتبسة،
أدرك أن طموحه في كتابة رواية قد غير نسيج عالمه إلى الأبد. لقد اندمج حلمه وواقعه
في وجود جديد، حيث كان العادي هو غير العادي، وحيث لا تعرف حدود الخيال حدودًا.
أصبح الراوي
أسطورة، شاعرًا كان يحلم بكتابة رواية وأعاد كتابة قوانين وجوده دون قصد. وبينما
كان يحدق في الأفق المتغير باستمرار، عرف أن رحلته كانت نعمة ونقمة في نفس الوقت،
وهي سيمفونية سريالية من الكلمات والعوالم التي ستطارد صفحات حياته إلى الأبد.
0 التعليقات:
إرسال تعليق