ارتبط مفهوم التقاعد أساسا بنهاية الحياة المهنية للموظفين والحرفيين، وهو يثير أسئلة مبهمة ومعلقة عند إحالته على حرفة التأليف والكتابة. على عكس الوظائف التقليدية، فإن الكتابة تعتبر مهنة متجذرة بعمق في طقوس الأحاسيس والموهبة والإبداع اللانهائي.
إن المغناطيسية الدائمة للسرد الأدبي تأسر المؤلفين في رحلة لا يمكن التنبؤ بنهايتها في دوامة الملكة والإلهام. على عكس المهن التي تتميز بمسارات خطية ونمطية ، فإن الكتّاب هم مسافرون في خرائط التأليف إلى الأبد ومبحرون في مد وجزر بين بحور الإبداع حيث تعمل تجارب الحياة والعواطف والتحولات المجتمعية والسياسية كمحفزات أساسية لخلق إنتاجاتهم ، مما يدفع بهم إلى الانخراط في رحلات لا متناهية ، سردية ممتعة وغامضة.
إن سر ذلك يكمن
في القوة المغناطيسية الجذابة التي تجبر الكتاب على العودة التلقائية والآلية اللولبية
إلى الورشة الأدبية، حتى بعد إعلان التقاعد الوظيفي المرتبط بحرفة الأدب. ومن خلال
تجارب الكتاب السابقين يبدو أن القلم يمتلك قدرة روحية على العودة بالكاتب إلى بيته
الورقي ، وهو نداء يشبه صفارة تنبيه وتذكيرا يوميا أقوى من أن يقاوم.
إن التوقف عند
نقطة نهاية رواية ما ، لا يؤدي سوى إلى تمهيد السبيل والتحفيز المبهم للشروع في رواية
لاحقة . ومن خلال الاستبطان والملاحظة يتبين أن ملحمة الكتابة تدور في حركة ونشاط لولبي
.. إنها تدوير مستمر من الإلهام والتعبير السردي. ومع تقليب الصفحات الواحدة تلو
الأخرى ، يتدفق الحبر، لينسج كتابة تتجاوز
حدود القيود الزمنية، مما يضمن بقاء شعلة السرد وقادة تومض إلى الأبد في تجاويف
روح المؤلف.
واليوم ونحن
نعيش في عصر المعجزات الرقمية، تشهد صناعة النشر تحولًات بالغة الأهمية ، مما يوفر
للمؤلفين المخضرمين والمتقاعدين فرصة متجددة للتألق الأدبي.
لقد أدى تصاعد
إيقاع النشر الذاتي وانتشار منصات الإنترنت إلى تحطيم حواجز النشر التقليدية، مما
سمح للكتاب بإعادة تدوين حياتهم المهنية بشكل مستقل عن أي ارتباط خارجي. إن هذا
التحول يشير إلى الابتعاد عن الطرح التقليدي للتقاعد باعتباره نقطة نهاية مسار
إبداعي ، وتحويله إلى عودة لولبية محتملة ومستدامة.
في الوقت الراهن
يستطيع الكتاب المتقاعدون، المدججون بالأدوات الرقمية، السفر في المشهد الأدبي
باستقلالية كبيرة . إن منصات الإنترنت مثل "المنتديات ، المجلات الإلكترونية
، مواقع التواصل الاجتماعي ..إلخ توفر لهم وسيلة يسهل الولوج إليها لنشر أعمالهم
دون قيود كابحة من متعهدي بوابات النشر التقليدي حيث تسمح عملية إضفاء الطابع
الديمقراطي للمؤلفين بالعودة إلى المشهد الأدبي بشروطهم الذاتية الخاصة، مع احتضان
حرية تجربة الأنواع والأساليب والموضوعات المختلفة.
ورغم ذلك ، فإن
هذه الثورة الرقمية قد فجرت مجموعة من التحديات. إن الحجم الهائل للمحتوى المتاح
عبر الإنترنت يجعل من الرؤية الشخصية الخاصة عقبة كأداء حيث يصبح التنقل بين
تعقيدات الترويج الرقمي وبناء التواجد عبر الإنترنت أمرًا بالغ الأهمية للمؤلفين
المتقاعدين الذين يسعون إلى العودة إلى الظهور في بروفايل رقمي حديث وحيث يعد
التكيف مع تفضيلات المتلقي المتطورة والتفاعل مع المجتمعات الرقمية من المكونات
الأساسية لهذه الرحلة الأدبية الجديدة.
في عوالم الأدب،
يكون لدى المؤلفين دائما حرقة واشتياق مزمن وجوهري لنحت رصيد دائم يتجاوز حدود
وجودهم الزمني. فالرغبة في ترك بصمة لا تمحى على المشهد الأدبي تصبح واضحة بشكل
خاص مع اقتراب الكتّاب من سن التقاعد المتوافق عليه في التقويم الإداري. ومن
المثير للدهشة، بالنسبة للعديد من المؤلفين، أن فعل الانفكاك من سحر وأصفاد القلم بالأمس
والحاسوب اليوم لا يشير إلى الانسحاب الكامل من حرفة الكتابة؛ بل إنه يدل على تحول
استراتيجي في عملية التركيز.
يجد المؤلفون
المتقاعدون أنفسهم محاصرين بجاذبية تراكمهم الأدبي حيث تتحول مخطوطاتهم ورواياتهم
وقصائدهم التي أنتجوها خلال سنوات نشاطهم السالفة إلى قنوات تأثير تستمر لفترة
طويلة بعد جفاف الحبر. فالسعي إلى تشكيل التراث الأدبي الشخصي يصبح قوة قاهرة، ورافعة
شخصية تدفع الكتاب إلى الانخراط في دوامة ما بعد التقاعد مثل التوجيه والتحليل
الأدبي واسترجاع الماضي.
لا يعد هذا السفر
المرهق مع الإرث الأدبي بمثابة شهادة على التأثير الدائم للماراتون الإبداعي للمؤلف
فحسب، بل يؤكد أيضًا على العلاقة العميقة بين الكاتب وكتاباته. في هذا الحوار الذي
لا ينتهي بين الماضي والحاضر، يتنقل الكتاب المتقاعدون في تضاريس التأثير الدقيقة،
مدركين أن كلماتهم تستمر في أصدائها المتمددة وتشكيل النسيج الأدبي للأجيال
القادمة حيث تصبح الرغبة في ترك ذخيرة دائمة هي الحافز الذي يبقي القلم حيويا ،
حتى في فترة التقاعد الهادئة.
عند التدقيق في
العلاقة بين الهوية والكلمة المكتوبة، يصبح من الواضح أن الكتابة ليست حرفة قد يتخلى
عنها المرء عند دق ساعة التقاعد. وبدلاً من ذلك، تتحول إلى رفيق يتطور جنبًا إلى
جنب مع المؤلف، وهو ثابت في عالم من المتغيرات. وهذا يدفعنا إلى إعادة تقييم النقاش
التقليدي المحيط بالتقاعد، مما يتحدانا للتفكير فيما إذا كان من الممكن حقًا فصل
جوهر الكتابة عن رحلة الكاتب عبر الحياة.
فضلا ذلك، تصبح
العملية الإبداعية نفسها مصدرًا للتشابك العاطفي. إن التدفق المتواصل للأفكار
وتجارب الحياة، وإثارة الحبكات المعقدة، والرغبة المتمثلة في ضخ الحياة في الكلمات،
يجعل من الصعب على المؤلفين فك الارتباط بشخصياتهم عن طيب خاطر. ويصبح التقاعد، في
هذا السياق، مفارقة حلوة ومرّة على حد سواء ــ تحرر من المواعيد النهائية
والتوقعات العامة، ولكنه وداع أخير لشغف فاتن مدى الحياة.
وعلى العكس من
العديد من المواقف يعد التقاعد بمثابة حافز للمؤلفين لإعادة تحديد أدوارهم في
المجال الأدبي. وسواء تعلق الأمر بنقل حكمة فلسفية، أو دعوة إلى التغيير، أو
مغامرة في أرخبيلات إبداعية مجهولة، يوضح هؤلاء المؤلفون أن نهاية عمل أدبي واحد
يمكن أن تكون بداية لسرد عمل آخر غني ومتنوع.
فالعلاقة بين المؤلفين
والقراء هي في الواقع علاقة جدلية ومتشابكة، وتتميز بتبادل ديناميكي للأفكار
والعواطف والتوقعات. إن الارتباط بينهما يتجاوز مجرد تأليف السرود الأدبية
واستهلاكها؛ فهو يمتد إلى أفق الإنتظارات التي يطرحها القراء على الطاولة وكيف
يمكن أن تؤثر بشكل كبير على قرارات المؤلف بمواصلة تحفيزه على الكتابة.
يشكل القراء الأوفياء
مجتمعًا متعلقا ومتشبثا بكتابهم المفضلين، مما يخلق إحساسًا بالتجربة المشتركة وبالتواصل.
إنهم يستثمرون أوقاتهم وأحاسيسهم، وغالبًا ما يكون لديهم شعور بالترقب لمتابعة أعمال
كاتبهم المحبوب والمفضل . في المقابل، يدرك المؤلفون جيدا هذا الارتباط، وتصبح انتظارات
قرائهم قوة دافعة في عمليتهم الإبداعية.
قد يشعر
المؤلفون، وخاصة أولئك الذين لديهم قاعدة جماهيرية مخلصة وواسعة ، بإحساس
بالمسؤولية تجاه قرائهم. يمكن لتوقعات الجمهور أن تكون بمثابة عامل محفز للعودة
إلى الكتابة، حتى بعد فترات التوقف أو التقاعد. والرغبة في تلبية انتظارات القراء
أو تجاوزها يمكن أن تلهم المؤلفين لاستكشاف أفكار جديدة، أو تجويد عطاءاتهم، أو
إعادة النظر في الشخصيات والعوالم التي أصبحت محبوبة من قبل جمهورهم.
ومما لاشك فيه أن الحوار المستمر بين الكتاب والقراء يطمس الحدود التقليدية بين
التقاعد والرحلة الأدبية المستمرة. قد يجد المؤلفون أنفسهم منجذبين مرة أخرى إلى
الكتابة بسبب الرغبة في الحفاظ على حبل التواصل مع قرائهم حيث تساهم ردود الفعل
والتشجيع والمشاركة من القراء باقتناء الكتب في الإحساس بالهدف لدى المؤلف، مما
يجعل فعل الكتابة ليس مجرد مسعى فردي بل تبادل تشاركي ومستمر بين طرفين أساسيين في
العملية الإبداعية "المؤلف والمتلقي".
فهل يمكن
للمؤلفين أن يتقاعدوا حقًا؟ ربما لا يملك أحد منا الجواب غير المؤلفين المصابين ببلية
العود.
0 التعليقات:
إرسال تعليق