الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الأربعاء، مايو 01، 2024

مكاشفات : (20) عبده حقي

383

في قلب المنسي، وسط أنقاض الماضي، وجدت نفسي أقف أمام منزل مهجور. لقد كان من بقايا حقبة ماضية، ونصبًا تذكاريًا للذكريات التي تلاشت منذ فترة طويلة. المنزل، الذي كان في يوم من الأيام ملاذًا للفرح والضحك، أصبح الآن صامتًا، وجدرانه تردد صدى همسات الماضي.

384

لقد ابتلع الصمت الضحكة، التي كانت نابضة ومليئة بالحياة. لكن الأصداء بقيت مثل أشباح زمن منسي. لقد رقصوا في القاعات الفارغة، وداروا في الغرف الفارغة، وأصواتهم الأثيرية لحناً مؤلماً في سكون البيت.

385

كنت أكاد أراهم، أصداء الضحك هذه. كانوا كالظلال، يومضون في زوايا رؤيتي، وأشكالهم غامضة ومراوغة. لقد كانت بقايا وقت كان فيه المنزل مليئًا بالحياة، بالحب، بالضحكات.

386

الصمت لم يكن فارغا. لقد كان مليئًا بهذه الأصداء، وهذه البقايا الطيفية للماضي. لقد كان صمتًا يتحدث بالكثير، صمتًا يحكي قصة. قصة فرح وحزن، حب وخسارة، ضحك ودموع.

387

وبينما كنت أتجول في المنزل، كانت كل غرفة تحمل صدى مختلفًا، وذاكرة مختلفة. كانت غرفة المعيشة، بورق جدرانها الباهت وأثاثها المغبر، تردد صدى ضحكات التجمعات العائلية الحميمية ، واحتفالات الأعياد، واللحظات اليومية التي لم تكن عادية على الإطلاق.

388

كان المطبخ، بأجهزته البالية وخزائنه الفارغة، يحمل أصداء وجبات مشتركة، وتجارب طهي، وأحاديث حول فناجين القهوة. كان الضحك هنا دافئًا ومريحًا، وهو تذكير بأوقات البسط.

389

كانت غرف النوم، بأسرتها الفارغة وجدرانها القاحلة، تردد صدى ضحكات قصص وحكايات ما قبل النوم، وشجار الوسائد، والأحلام التي تهمس في الظلام. كان الضحك هنا ناعمًا ولطيفًا، تهويدة تهدئ الروح.

390

وبعد ذلك ساد الصمت. الصمت الذي ابتلع الضحك، الصمت الذي سيطر على المنزل الآن. لقد كان صمتًا مؤثرًا وعميقًا في نفس الوقت، صمتًا كان بمثابة شهادة على مرور الوقت.

391

ولكنني وجدت في الصمت، وفي أصداء الضحك، جمالاً غريباً. كان جمال الذكريات، اللحظات المتجمدة في الزمن، الضحك الذي يستمر حتى في وجه الصمت. لقد كان جمالًا ساحرًا وساحرًا في نفس الوقت، جمالًا تحدث عن مرونة الروح الإنسانية.

392

عندما غادرت المنزل، تبعتني أصداء الضحكات، وكانت أصواتها الطيفية بمثابة لازمة مؤرقة في الصمت. المنزل، رغم أنه مهجور، لم يكن فارغا. كان مليئا بالأصداء، بالذكريات، بالضحك. وفي الصمت، في الأصداء، وجدت قطعة من الماضي، قطعة من نفسي.

393

تحت حجاب الزئبق، يومض عالم في دعوة ممزقة. الفضول، ثعبان يلتف حول معصمها، حثها على الاقتراب. السطح البارد، بوابة الأحلام المصقولة، تنبض بطاقة غير مرئية. وبنفس متردد، اخترقت الحاجز، وانقسم العالم.

394

الجاذبية، وهو مفهوم منسي، تلاشت عندما سقطت عبر مشهد من المناظر الطبيعية المتغيرة. تداخلت الألوان الزاهية مع بعضها البعض، وازدهرت النباتات المستحيلة متحدية المنطق، ونبضت السماء بكويكبات غير معروفة. تردد صدى الضحك من الحناجر غير المرئية، وكان اللحن غريب الأطوار ومقلقًا في نفس الوقت.

395

هنا، بدا نسيج الواقع نفسه منسوجًا من غبار النجوم والحكايات الخيالية المنسية. كانت الأشجار الناطقة ذات العيون الكهرمانية المصقولة تقدم ألغازًا مبهمة، وكانت الأنهار تتدفق صعودًا في تحدٍ لقوانين الطبيعة، ولاحت في الأفق قلاع مصنوعة من العظام الحية. كان الهواء، المثقل برائحة الأوزون والاحتمال، يتشقق بالترقب.

396

في هذا العالم المقلوب رأساً على عقب، أصبح المستحيل أمراً شائعاً. الزمن، مهرج متقلب، يلعب لعبة الغميضة، يتمدد ويتقلص مع كل نزوة عابرة. يمكن لنبضة واحدة من قلبها أن تشمل الأبدية، أو يمكن أن يتكشف العمر في غمضة عين.

397

ازدهر بداخلها شعور بإمكانية لا حدود لها. هنا تلاشت القيود مثل ضباب الصباح. يمكنها الطيران، متحدية الجاذبية بنقرة من معصمها، أو تنفس النار من أطراف أصابعها، أو الانكماش إلى حجم كشتبان واستكشاف العالم الخفي تحت شفرات العشب.

398

ومع ذلك، كان القلق ينخر في أطراف دهشتها. هذا العالم، الذي كان جميلًا بشكل مذهل، كان يحمل تنافرًا غريبًا. تومض الألفة في محيط رؤيتها، حلم نصف متذكر، لحن يغنى بلسان منسي. هل كانت زائرة أم ساكنة منسية استيقظت من سبات طويل؟

399

صوت، همس في الريح، تيار يسحب وعيها، ينادي اسمها. لقد كان صوتًا مألوفًا وغريبًا في الوقت نفسه، لحنًا مشتاقًا من أعماق كيانها. لقد أشار إليها بشكل أعمق، نحو قلب العالم، وهو المكان الذي تتداخل فيه الحدود بين الواقع والأحلام في منطقة واحدة.

400

وبنفس عميق، خطت خطوة مؤقتة إلى الأمام، وكان العالم الزجاجي يتلألأ أمامها أكثر من أي وقت مضى، وهو وعد همست به الريح.

401

تحت نظرات القمر الأثيرية، نقف كحجاج في معبد الليل، قلوبنا متوهجة بنور الشوق المتقد. بأذرع ممدودة وأعين موجهة نحو السماء، نلقي آمالنا على اللوحة السماوية، حيث تتلألأ النجوم مثل الجواهر المتناثرة عبر نسيج الفضاء المخملي.

402

في حضن لونا المضيء، تصعد أمنياتنا مثل دخان البخور، وتنسج أنماطًا معقدة في الامتداد اللامحدود أعلاه. تصبح كل رغبة همسة منارة للضوء، وكوكبة من الأحلام تحلق في عالم الإمكانيات اللانهائي

تابع


0 التعليقات: