الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الاثنين، يوليو 29، 2024

نص سردي "وجه كاللحم المقدد المشوي": عبده حقي

 


تذوب جدراني من حولي مثل الشمع تحت الشمس، وتتساقط في برك من الأحلام السائلة والأفكار المنصهرة. أجد نفسي في غرفة حيث أخذ الواقع إجازة، ولم يترك وراءه سوى صدى الظل لما كان ذات يوم. هنا، أواجه وجهًا، وجهي، لكنه ليس وجهي، صورة ذاتية ناعمة مصبوبة من نسيج خارق.

هذا الوجه، وجهي، معلق في الفضاء، قناع باهت متدلي وكأنه مصنوع من جوهر الزمن ذاته. وهو مدعوم بعكازات، دعائم دقيقة تمنعه ​​من الانهيار إلى كومة بلا شكل. هذه العكازات رقيقة وهشة، ومع ذلك فهي تحمل ثقل هويتي برشاقة غريبة. إنها تخترق لحم الوجه، وتندمج معه ببعض.

أقترب، ويتردد صدى خطواتي في الصمت الكهفي، وأرى التفاصيل التي تضفي على هذه الصورة الغريبة رونقا خاصا. تحدق العيون الغائرة العميقة فيّ بفراغ واع. إنها نوافذ على هاوية تطفو فيها الأسرار مثل الريش العائم، خفيف وغير جوهري. الأنف، الممدود والملتوي، ينحني على نفسه، في حلقة متعرجة تتحدى قوانين التشريح. يشم الهواء، ويستحضر رائحة الذكريات المنسية والأفكار غير المكتملة.

الفم، أوه الفم، هاوية من المفارقات. إنه مفتوح قليلاً، وكأنه محاصر وسط همسة، لكن لا صوت يفلت منه. إنه بوابة وسجن في الوقت نفسه، مكان تولد فيه الكلمات وتموت دون أن يُسمع صوتها أبدًا. من زاويته تتدلى شريحة من لحم المقدد المشوي، سخيفة ومثيرة، لقمة من الواقع في هذا المشهد السريالي. لحم مقدد مقرمش وذهبي اللون، ورائحته تتناقض بشكل حاد مع الجو الخافت. إنه يتدلى بشكل محفوف بالمخاطر، كقربان غريب .

عندما أنظر إلى هذه النسخة المشوهة من نفسي، أشعر بارتباط غريب، وفهم يتجاوز حدود اللغة والمنطق. هذا الوجه، هذه الصورة الناعمة، هي انعكاس لعالمي الداخلي، عالم حيث تكون الحدود بين الحقيقي والوهمي غير واضحة وغير واضحة أيضا . إنها خريطة لنفسيتي، حيث تمثل كل ثنية وطية جانبًا مختلفًا من العالم.

أمد يدي لألمس وجهي، وأصابعي ترتجف بمزيج من الخوف والافتتان. السطح أملس ومرن، مثل الطين الدافئ. يستسلم للمستي، ويعيد تشكيل نفسه قليلاً كما لو كان يستجيب لوجودي. أشعر بنبض تحت السطح، إيقاع خافت يعكس نبض قلبي. إنه حي، بمعنى ما، متحرك بالفعل.

في محيط رؤيتي، يتمايل الحم المقدد المشوي برفق، كما لو كان يحركه نسيم غير مرئي. يشير إليّ، رمزًا للدنيوي المتطفل على غير العادي. أتراجع خطوة إلى الوراء، وتتحرك الغرفة من حولي، وتنحني الجدران وتتشوه استجابة لحركتي. يظل الوجه هو النقطة المحورية، ثابتًا وثابتًا وسط الفوضى.

أغمض عيني، وتظل الصورة عالقة في ذهني، مطبوعة على وعيي مثل حلم واضح. أُنقَل إلى مكان مختلف، إلى مشهد جيء به من الخيال والحدس. هنا، السماء عبارة عن لوحة قماشية من الألوان، تتداخل الألوان وتتداخل مع بعضها البعض في رقصة من الضوء والظل. الأرض تحت قدمي ناعمة ومرنة، خليط من القوام والإحساس.

أسير عبر هذا المشهد الحالم، مسترشدًا بيد غير مرئية. الطريق أمامي غير مؤكد، متعرجًا عبر وديان الشك وقمم الإلهام. على طول الطريق، أواجه شظايا من ماضي، ذكريات متجسدة في أشكال خيالية. لعبة طفولة، أكبر من الحياة، تقف حارسة بجانب نهر من الدموع. كتاب، ترفرف صفحاته مثل أجنحة طائر الدوري، يحوم في الهواء، يهمس بالأسرار بلغة أكاد أتمكن من فهمها.

أينما نظرت، أجد تذكارات من رحلتي، ورموزًا لتجاربي وعواطفي. والمناظر الطبيعية هي شهادة حية على عالمي الداخلي، وهو المكان الذي يتعايش فيه الواقع والخيال في فوضى متناغمة. وفي قلب كل ذلك، دائمًا، توجد صورة ذاتية ناعمة، منارة للهوية وسط الطبيعة الخلابة.

أعود إلى الغرفة، وأفتح عيني على الوجه المألوف والغريب. لا تزال العكازات تحمل الوجه عالياً، وتوازنها الدقيق شهادة على هشاشة الوجود. يتدلى لحم المقدد المشوي، الذي أصبح الآن رمزاً لاتصالي بالعالم الملموس، بثبات. أدركت الآن أن هذه الصورة ليست مجرد انعكاس لذاتي ، بل هي تمثيل لروحي، ومظهر من مظاهر الجوهر السريالي الذي يحيط بي.

عندما أقف أمام هذا وجهي التجريدي، أشعر بالمصالحة بين جوانبي المختلفة. أنا الفنان والموضوع، الخالق والمخلوق. في هذه المساحة السريالية، أجد الوضوح، وفهمًا أعمق لتعقيد وجمال عملي.

مع إلقاء نظرة أخيرة على صورتي الذاتية الناعمة، استدرت وابتعدت، حاملاً معي المعرفة بأنني عامل حي، متغير باستمرار ورائع إلى ما لا نهاية. يظل اللحم المقدد المشوي، اللمسة الغريبة في هذه القصة الخيالية، تذكيرًا بأنه حتى في أكثر التجارب سريالية، هناك دائمًا تلميح من الواقع، مما يؤسسنا في المشهد المتغير باستمرار.



0 التعليقات: