الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الثلاثاء، يوليو 30، 2024

نص سردي "في شرنقة الستار": عبده حقي


في لحظة هلامية ، وقفا هناك، لا مرئيين، كانت شكلهما مغطى بنسيج رقيق من حلم. بدت الغرفة من حولهما وكأنها تتلاشى في ضباب، والجدران همسة من الوجود، والسقف وعد غير منطوق. لم يكونا حاضرين تمامًا ولا غائبين تمامًا، معلقين في الغموض الكامن بين الحضور والغياب. كان الهواء كثيفًا ، وهدوء يطنطن بأصوات الحوارات الصامتة والرغبات غير المعلنة.

كانا قريبين، أقرب من الأنفاس، لكنهما منفصلان بحاجز من القماش لا يمكن اختراقه. لم يكن القماش الذي يغطي وجهيهما مجرد حائط ؛ كان رمزًا، حجابًا من المجهول الذي يكمن بينهما. تحركا نحو بعضهما البعض، ليس بتوجيه من البصر ولكن بخيوط غير مرئية لقوة غير مرئية تجذبهما معًا. كانت إيماءاتهما ناعمة ومترددة، كما لو كانا خائفين ومجبرين، تجذبهما معًا جاذبية تتجاوز فهمهما.

في السكون، شعرا بلمسة الغطاء على الغطاء، إحساس حميمي وبعيد في الوقت نفسه. كانت لمسة لم تكن لمسة، وقبلة لم تكن قبلة. حرمتهما الستائر من دفء كل منهما، ونعومة التقاء الشفاه، ولكن في هذا الإنكار، كان هناك عمق مؤثر. كان فعل الوصول إلى بعضهما البعض، ومحاولة سد الفجوة، تعبيرًا عن رغبة تتجاوز المادي. كانا يبحثان عن شيء يتجاوز السطح، ويتخطى الملموس.

كان العالم خارج وجودهما عبارة عن لوحة صامتة، والألوان خافتة والأشكال غير واضحة. كان الأمر كما لو كانا موجودين في مستوى مختلف، عالم حيث تم تعليق قوانين الواقع المعتادة. تدفق الوقت بشكل مختلف هنا، بطيئًا ولزجًا، مثل العسل المتدفق من جرة فرعونية. في هذه اللحظة المعلقة، كانا بلا زمن ، مثل الظلال التي يلقيها ضوء غير مرئي.

تحدث جسداهما، على الرغم من غموضهما، بلغة خاصة بها. انحناء الكتف، وميل الرأس، وزاوية الذراع ــ كل هذه العلامات الصامتة كانت تتحدث عن الشوق، والرغبة في الولوج، والحاجة الملحة إلى التواصل. ومع ذلك، وقفت الستائر كحراس صامتين، وحراس لغز لم يتمكنوا من كشفه. كان الستار بمثابة درع وحاجز في الوقت نفسه، يحميهما من ضعف التعرض الحقيقي ومع ذلك يسجنهما داخل عزلتهما الخاصة.

ولكن في هذه اللحظة، كانا جسدا واحدًا. كان حجابهما المشترك، الشيء نفسه الذي يفصلهما، يوحدهما أيضًا في تجربة فريدة. كانا شريكان في رقصة الغموض هذه، وباليه العمى هذا. تحركا معًا بنعمة تولد من التفاهم المتبادل، واتفاق غير منطوق لقبول حدود إدراكهما. كانا مستكشفين في مشهد من الظلال، ورسامي خرائط يرسمون معالم بلد مجهول.

كانت الغرفة من حولهما، رغم أنها كانت تبدو عادية، مليئة بثقل القصص المسكوت عنها. بدت الجدران وكأنها تميل إلى الداخل، تستمع، وكأنها هي أيضًا فضولية بشأن طبيعة هذا اللقاء الصامت. كانت الأرضية تحتهما شاهدًا صامتًا، والأرض التي وقفا عليها أصبحت مقدسة، ومسرحًا لدراماهم التي لا توصف. كان السقف، مساحة بيضاء ، أشبه بلوحة قماشية فارغة تنتظر ضربات فرشاة أفكارهما غير المرئية.

كانت أياديهما، رغم أنها كانت مقيدة بالستار، تبحث عن بعضها البعض. في الحركة البطيئة المتعمدة للأصابع الممتدة، كان هناك حنان رقيق. لم يتمكنا من الشعور بملمس الجلد، أو دفئه، لكن النية كانت كافية. كانت لفتة ضعف، ومد يد في الظلام، على أمل لمسة في المقابل. كانت أصابعهما تفرك القماش، مداعبة شبحية أرسلت تموجات عبر المساحة بينهما.

في هذا العناق غير المرئي، وجدا راحة غريبة. كانت الستائر، بمثابة شرنقة، ومساحة حيث يمكنهما أن يكونوا أحرارًا من تدقيق العالم. لقد كانا مختبئين، نعم، ولكن في هذا الاختفاء، وجدا الحرية ليكونا شيئًا مختلفًا عما كان متوقعًا. يمكن أن يكونا ألغازًا لبعضهما البعض، ألغازًا ملفوفة في قماش الغموض. كان هناك جمال في هذا الشك، وشعر في الجهل.

لقد وقفا هناك، ملفوفين في ستارهما، هوياتهما مخفية ولكنها حاضرة بعمق. لقد شكلا مفارقة، تناقضًا، وحدة في الانفصال. كان الغطاء الذي يغطي وجهيهما قناعًا وكشفًا في نفس الوقت، غطاء يكشف عن الحقائق العميقة لوجودهما. في عماهما، رأوا بوضوح جوهر وشائجهما. لم يكونا مجرد شخصان؛ لقد كانا رمزين، وتمثيلات للحالة الإنسانية، والبحث الأبدي عن الفهم، والاتصال، والحب.

في هدوء تلك اللحظة ، شعرا بسلام غريب. كان العالم الخارجي غير ذي صلة؛ كان الواقع الوحيد هو المساحة التي يتقاسمانها. لقد كانا معًا في عزلتهما، مقيدين بالحجاب ومع ذلك أحرارًا بداخله. كانا كلاهما سجينين ورحالتان، يسافران عبر مشهد عالميهما الداخلي. كانت الستائر هي دليلهما، وخريطتهما، وتذكيرهما الدائم بالغموض الكامن في قلب الوجود.

هكذا كان يقفان، ملفوفين بحجابهما، محتجزين في التوتر الهادئ للغيب. لم يعرف كل منهما وجه الآخر، ولم يستطع رؤية عيون الآخر، لكنهما شعرا بارتباط أعمق من السطح. كانا مستكشفين في الظلام، باحثين عن حقيقة لا يمكن رؤيتها، بل الشعور بها فقط. في أحضانهما، وجدا لحظة عابرة من الأبدية، لمحة من الحقيقة التي تكمن وراء الحجاب. وفي تلك اللحظة، كانا راضيين، ملفوفين بالغموض، محتجزين في أحضان المجهول.


0 التعليقات: