الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، سبتمبر 21، 2024

"أضغاث أحلام" نص مفتوح : عبده حقي


لا تستطيع اليد التي تمسك بالسماء أن تستوعب وزنها، ومع ذلك فهي تصر على ذلك، وترسم بلا كلل لوحات تجريدية لم يرسمها بيكاسو قط.

في زاوية الغرفة، رجل يدندن بصوت خافت، يذوب صوته في صوت لا تتذكره إلا طيور الدوري.

هناك سلالم ، رغم أنها لا تصعد إلى أي مكان. كل خطوة تضحك لوحدها بهدوء، نكتة يهمس بها للفراغ على وجه الخصوص. ينبض قلب المرآة، بنبضات تتردد عبر السطح - تطوي الهواء مثل منديل مطرز، وهي لفتة موجهة لضيف غائب. تتحرك اليد مرة أخرى، وكأنها تحاول فك أنشوطة عنيدة .

تومض النافذة مرة، ثم مرة أخرى، ناسية ما إذا كانت مفتوحة أم مغلقة. في مكان ما بين حافة الفكر ومنحدر النوم، يركع العالم، ويميل برأسه، ويتساءل عما أصبح عليه من جديد بعد زلزال الحوز.

ونحن جالسون، نراقب المساحة بين الظلال التي تنمو، رغم أن الضوء أو الظلام لم يعد يبدو حقيقيًا بعد الآن.

تفقد الساعة صوابها ، فتدور إلى الخلف، ثم إلى الأمام، وإلى الجانب، غير متأكدة من المكان الذي ينبغي أن يحدد فيه الوقت. ربما لم يكن من المفترض أن تتحرك على الإطلاق، بل لتتوقف في هذا الجهل الأبدي. ومع ذلك، تمتد عقاربها. ومع ذلك كذلك، ترفض السماء أن تسقط.

التقيت أمس بساعة. لم يكن عليها أي رقم، بل كانت مجرد حروف غريبة ـ حلزونات ومثلثات وأشياء قد تكون ريشاً ولكنها في نفس الوقت قد لا تكون كذلك. استدرت بعيداً للحظة، وعندما نظرت إلى الوراء لم أجدها. وفي مكانها كان هناك سلم يلتف كالحلزون إلى أعلى بلا نهاية، أو ربما كان يتجه إلى أسفل؟

كان طعم الهواء أشبه برائحة الصدأ، طبعا إن كان للصدئ رائحة ولكن عندما لعقت شفتي وجدتهما جافتين. مددت يدي لألمس الدرابزين، ولكنه انزلق من بين أصابعي وكأنه فكرة نسيتها في منتصف الجملة. كانت الطيور، كما أعتقد، تطير عبر الجدران، تاركة وراءها آثاراً من الضوء، ولكن لم يكن هناك ظل يتبعها.

نظرت إليّ امرأة، سيدة ناضجة "فريش" ربما كانت تمثالاً مرمريا قبل لحظات قليلة ، بعينين كبيرتين جدا، ليست جاحظتين بل عميقتين للغاية، مليئتين بأشياء لا أجد الكلمات المناسبة لوصفها. همست بشيء ما - ربما كان تحذيرًا، أو ربما دعوة، لكن الكلمات تشابكت في الفراغ بيننا، وتحولت إلى صوت مثل تكسير زجاجات النبيذ المعتق . حاولت الرد، لكن صوتي كان يمضي في قطار لم أستقله. ابتسمت المرأة، أو ربما لم تفعل. كان وجهها على شكل علامة استفهام عالقة بلا جواب.

في دربنا، كانت هناك قطة مرقطة ترتدي قبعة تدق بذيلها على الرصيف، في انتظار شيء لم يكن قادمًا. اتبعت الصوت، على أمل أن يقودني إلى مكان ما، لكن الشارع تفرع، وانطوى في مدارة مستحيلة. وقفت هناك، متمسكًا بالصمت، غير متأكد مما يجب أن أفعله به. عندما التفت، اختفت المرأة، وانتصب محلها شبح الساعة، لا تزال بلا أرقام، لا تزال تدور في دوامتها الأبدية. عندها أدركت:

لم أكن هنا على الإطلاق.

ظهر المحيط في الرواق الليلة الماضية، ففاض فوق السجادة، حاملاً معه أسماكاً كانت قادرة على المحاورات مع شباك الصيد، وإن كانت لغتها عبارة عن دوامات وشقوق في الهواء. حكوا لي قصصاً عن جزر ترقص تحت ضوء القمر. حاولت السير نحوها، لكن الأرض انهارت تحت قدمي، تاركة إياي معلقاً في شبكة من الأصوات ــ طنين، وزقزقة، ودندنة وأشياء ربما كانت أصواتاً أو ضحكات الريح، أو ربما أحلام شخص في عداد الموتى.

وجدت نفسي في مدينة نسيت فيها كل المباني أشكالها. كانت تتعرج على نفسها مثل دخان محصور في زجاجة، تدور بلا بداية ولا نهاية. مشيت عبر شوارع لا تؤدي إلى أي مكان، إلا إلى المزيد من متاهات الشوارع والدروب ، والمزيد من الزوايا التي تحولت إلى أبواب بلا جدران. لم يكن للناس هناك وجوه، فقط أقنعة معدنية مرسومة بتعبيرات لا تتحرك أبدًا. لم يلاحظوني، أو ربما لم أكن حقيقيًا بالنسبة لهم. مددت يدي لألمس أحدهم، ومررت يدي عبرهم كما لو كانوا مجرد هواء.

في وسط المدينة كانت هناك شجرة من معدن التبرالخالص، كانت أغصانها تدندن بلحن كدت أتعرف عليه ولكنني لم أستطع فعلا تحديده. تحت الشجرة كان يجلس رجل بعينين تلمعان مثل نجمتين محصورتين في جرة. عرض عليّ ريشة طاووس بسعر باهض، رغم أنني لم أطلبها، وعندما أخذتها احترقت يدي ـ ليس بالنار، ولكن بإحساس بنسيان شيء مهم. سألته أين أنا؟ لكن شفتيه تحركتا في صمت، وقد كونتا جملة لم أستطع سماعها.

فجأة، هبت ريح عاصفة على المدينة، ورفعت كل شيء إلى السماء - الناس والمباني وحتى الطرقات نفسها. تشبثت بالأرض، لكنها بدأت أيضًا في الارتفاع، وتشققت تحت أصابعي. سقطت إلى الأعلى، وحلقت عبر طبقات من الضوء والظلام، عبر السحب التي تحولت إلى حجر ومطر يهمس بأسرار لم أستطع فهمها. أصبحت السماء أرضا، وأصبحت الأرض بحرا، ولم أكن في الهواء ولا على الأرض. لقد حوصرت بينهما، في فضاء ليس هنا ولا هناك، ولكن في مكان آخر تمامًا.

عندما استيقظت، كنت أحمل مفتاحًا تراثيا كبيرا . لم يكن به قفل. قلبته بين يدي، فبدأ في الهمهمة، صوتًا ازداد ارتفاعًا حتى أصبح كل ما أستطيع سماعه. انحنت جدران الغرفة إلى الداخل، ثم إلى الخارج مرة أخرى، وهي تنبض بإيقاع شيء غير مرئي، شيء مراقب. عرفت حينها أنني لست وحدي، رغم أنني لم أستطع أن أرى من الذي يشاركني تلك الساحة. كان في كل مكان ولا مكان، يراقب وينتظر، رغم أنني لا أستطيع أن أقول لماذا. أمسكت بالمفتاح بإحكام، ثم ومض العالم، كما لو كان غير متأكد من وجوده أيضًا.

الباب ينتصب في وجهي موارباً، ولكن ليس بالقدر الكافي للدخول. خلفه، يتلألأ ضوء أخضر، ثم أزرق، ثم لون غريب لا اسم له. ينبض مثل أنفاس عملاق نائم تحت الأرض. أضع أذني على الباب، وأستمع إلى إيقاع الضوء. يتحدث بلغة مذاقها مثل المعدن المالح. تحك يدي، وكأنها تحاول تذكر شيء لم تلمسه قط. أطرق مرة، ومرتين، لكن الصوت يتلاشى، ويضيع في الفجوة بين الباب والعالم خلفه.

ثم ها هو ظل يتحرك عبر الضوء، رغم أنني لا أستطيع أن أحدد ما إذا كان في الداخلً أم الخارجً. يصبح الهواء كثيفًا، مثل الدخان الذي يرفض الارتفاع. أحاول دفع الباب، لكنه يقاوم، ويرتجف تحت يدي وكأنه كائن حي. هناك صوت الآن، خافت لكنه متصاعد - همهمة، أغنية، لا بل صرخة ؟ يزداد ارتفاعًا، ويملأ صدري حتى أنني لا أستطيع التنفس. ينفتح الباب دون سابق إنذار، وهو لا يكشف عن أي شيء. لا ضوء، ولا ظل. فقط الساحة التي كان من المفترض أن يكون فيها شيء ما.

تحوم كلمة في الهواء، بعيدًا عن متناول يدي. تومض مثل لهيب في مهب الريح، تهدد بالاختفاء قبل أن أتمكن من فهم معناها. أشاهدها ترقص، صامتة .. بعيدة، وكأنها تنتمي إلى عالم آخر. تنحني السماء منخفضة، تضغط على أفكاري، مثقلة بأشياء لم تُقال. أسير إلى الأمام، لكن الأرض تذوب تحت قدمي، تاركة إياي معلقًا بين الأنفاس. في هذه اللحظة، لا يوجد وقت، ولا صوت، فقط الانتظار. لا تزال الكلمة تحوم، وعدًا لم يُقال، وحقيقة لم تُرى.

كان الحجر يطن في يدي بصوت أعمق من أن تصفه الكلمات. يحمل ثقل ألف نجمة منسية، ينثني ضوءها في شقوق الأرض. أضمه إلى صدري، وأشعر بنبضه يتلاءم مع نبضي، إيقاع ولد قبل الزمن نفسه. الرياح من حولي مثخنة بالهمسات - وعود قطعت في عصر آخر، لروح أخرى. أستمع، لكنها لا تتحدث إلي. إنها تتحدث إلى الحجر، إلى السماء، إلى الجذور الدفينة تحت قدمي.

أسير عبر الغابة، رغم أن الأشجار ليست أشجارًا بل ذكريات مغطاة بلحاء الأشجار. تمتد نحوي، وأغصانها مثقلة برائحة المطر والنار. ينفتح أمامي طريق، رغم أنه لا يقودني إلى أي مكان سبق لي أن ذهبت إليه. أتبعه، لأنه لا يوجد شيء آخر يمكنني فعله. تنفتح السماء، لتكشف عن وجه أتعرف عليه تقريبًا، لكن لا يمكنني تسميته. يبتسم، ويركع العالم لإرادته.

طفق الحجر يطن مرة أخرى، بصوت أعلى هذه المرة، وأدركت ذلك. ليس الكلمات، بل الوزن. السماء، والأشجار، والهمسات - لم تكن مخصصة لي أبدًا.

0 التعليقات: