الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، سبتمبر 07، 2024

"حيث يصاب النص بالحمى " نص مفتوح : عبده حقي


لم يعد الليل يمتلك جسدًا. لقد تم جره قطعة قطعة إلى الفراغ حيث توقفت الألوان عن الهجرة وأصبح الهواء ثقيلًا بهمسات الغبار. نظرة من الهاوية سحبت حواف الواقع. هل كان لا يزال هناك، أم أنه اختفى في مكان ما، وذاب في العدم؟

لم أعد أستطيع تحريك يدي. كانتا واقفتين كآثار قديمة، متحجرتين في مهب الريح، وكأنها قُدِّمتا كهدية لإله فر منذ زمن بعيد. رأيتهما هناك، هاتين اليدين، جافتين، جافتين بفعل نار غير مرئية، معلقتين في الفراغ بين نبضة قلب وصرخة. لم تعدا ملكي. لم يعد شيء ملكي. ومع ذلك، كنت أسمعهما تتحدثان، هاتين اليدين، بلغات لم أكن أعرفها قط، وهما تتمتمان بقصص عن الصحاري والعواصف التي ماتت قبل قرون.

ولقد كانت هناك حمى ـ أوه نعم، لقد وقفت بين شقوق الوجود كصديق قديم، ولكنها لم تكن صديقة. لقد تم إعلان الهدنة. لقد انحنت الحمى، على الرغم من وحشيتها، برأسها، وهي تتمتم لنفسها، واتفقنا على التعايش في هذا المكان حيث انطوى الزمن على نفسه، محيياً كل ما كان قد حدده ذات يوم.

تحدثت إلى الحمى، أو تحدثت هي إليّ، الأمر غير واضح. كان صوتها غليظًا، بطيئًا، وكأنها لم تتعلم أبدًا سرعة الكائنات الحية. قالت: "لا بد أن يكون القلب هو القلب". ماذا يعني ذلك؟ تساءلت بصوت عالٍ، رغم أن أي صوت لم يخرج من شفتي. لم يكن سؤالاً يهدف إلى الحصول على إجابة، بل مجرد بيان ألقي في الأثير، مثل حجر ألقي في بئر بلا قاع.

في مكان ما عميقًا داخل عروقي، شعرت بوجود شيء آخر، شيء يزحف ويتحرك بلا هوادة. لقد كان هناك إلى الأبد، أو ربما للحظة واحدة فقط، لكن وجوده كان لا يمكن إنكاره. كان يرتجف، يزأر، ثم يفر. استطعت سماع صراخه، لكن كذكرى فقط، وكأنه حدث بعيدًا عن جدران ما كنت أعرفه ذات يوم بالزمن.

لقد رحل، وفي غيابه، شعرت بالارتياح والفراغ، لأنه أخذ معه شيئًا ما. شعرت أن عروقي خفيفة، عديمة الوزن، وكأنها قد تطفو بعيدًا، وتنجرف نحو سماء لم تعد موجودة.

ثم كان هناك الفم. فمي، ولكن ليس فمي. انفتح، وخرج منه صوت ليس لي، صوت مثل الريح التي تخدش سطح عالم مهجور. كان الصوت حزينًا، ملطخًا بالدماء، لكنه متعب. لقد سافر بعيدًا جدًا، عبر العديد من أراضي الصمت والصقيع. أراد أن يستريح. ولكن بدلاً من ذلك، تم غسله وتنظيفه، وأزيلت بقعته بأيدٍ غير مرئية، ورفعت ذكراه وعادت. أصبح صوتًا جديدًا، صوتًا غير مألوف، صوتًا لن يتحدث إلي، على الرغم من أنه يعيش في نفس الفم الذي كنت أسميه ذات يوم صوتي.

بدت الغرفة، أو ما كانت غرفة ذات يوم، وكأنها تنبض وكأنها تتنفس. تحركت الجدران، ليس نحو الخارج، بل نحو الداخل، وكأنها تستنشق بقايا شيء كان له أهمية ذات يوم. شعرت بها تضغط على بشرتي، ناعمة في البداية، ثم بقوة، حتى اندمجت معي، محيت الحدود التي كانت تحدد ذات يوم أين انتهي وأين بدأت.

لم يكن هناك ضوء هنا، ليس بالطريقة التي قد يتوقعها المرء، فقط وميض خافت من الذكريات التي طفت في الهواء مثل الصور القديمة التي تلتقطها الريح. حاولت التقاط واحدة، فقط لأراها بوضوح، لكنها انزلقت من بين أصابعي، وذابت قبل أن أفهم معناها. كانت هناك لحظة اعتقدت فيها أنني تعرفت على وجه، جزء من شيء كان مهمًا ذات يوم، ولكن بمجرد أن مددت يدي إليه، اختفى.

عادت الحمى، فابتسمت، ليس كما ينبغي للحمى أن تبتسم، بل بنظرة عارفة، وكأننا نتشارك سرًا لن يجرؤ أي منا على البوح به. همست، رغم عدم وجود صوت، "كما ترى، يجب أن يكون القلب هو القلب".

ولقد فهمت ذلك، وإن لم يكن على النحو الذي يشعر به المرء عادة. فلم يكن ذلك الفهم فهماً منطقياً، بل فهماً استسلامياً. فقد كان القلب دوماً هو القلب، ولم يكن بوسعه أن يكون غير ذلك، ومع ذلك فقد حاولت أن أجعله شيئاً أعظم، شيئاً يتجاوز ذاته. ولكن هنا، في هذا المكان حيث لا شيء وكل شيء يختلطان ببعضهما، لم يكن ذلك ضرورياً. فلم يكن القلب في حاجة إلى أن يكون شيئاً آخر غير ذاته. ولم يكن في حاجة إلى ألقاب أو تفسيرات.

كان الزمن هنا وهمًا، من النوع الذي يمتد وينحني مثل الانعكاسات في الماء. شعرت به ينزلق عبر عقلي، لا يتحرك إلى الأمام، بل يتصاعد إلى الداخل، وينطوي على نفسه حتى أصبح سلسلة من اللحظات، كل منها تتداخل مع الأخرى، حتى لم أعد أستطيع التمييز بين أين تنتهي إحداها وأين تبدأ الأخرى.

تحدث الصوت في فمي مرة أخرى. هذه المرة كان أخف وأرق، لكنه ما زال غير مألوف. غنى أغنية لم أسمعها من قبل، لحن يتلوى في الهواء مثل الدخان، يتلوى وينسج حتى استقر حولي مثل الكفن. حاولت أن أدندن معه، لكن حلقي كان جافًا، وشفتاي متشققتان، ولم يخرج أي صوت. لم تكن الأغنية لي. كانت لشيء آخر، شيء يعيش خارج جدران جسدي، في مساحة حيث لم يكن الصوت ضروريًا.

أعتقد أن هناك آخرين هنا. ربما كانت ظلالاً أو أشكالاً تتحرك على حافة رؤيتي، كانت موجودة دائماً ولكن لم أرها بالكامل قط. كانت تتجول في الغرفة مثل الأشباح، ولا تترك أي أثر لوجودها باستثناء الاضطراب الطفيف الذي تسببه في الهواء أثناء مرورها. كان بإمكاني أن أشعر بهم يراقبونني، رغم أنني لم أر وجوههم قط.

ربما كانوا ينتظرون شيئًا ما، أو ربما كانوا ينتظرون بالفعل لفترة طويلة جدًا، والآن هم ببساطة يتباطأون، وقد نسي غرضهم منذ فترة طويلة، ولم يعد وجودهم أكثر من صدى خافت لما كان ذات يوم.

مددت يدي إلى أحدهم، وتحركت يدي في الهواء وكأنها تتحرك في الماء، ببطء وثقيلة. لكن الشكل انزلق بعيدًا قبل أن أتمكن من لمسه، تاركًا إياي ممسكًا بلا شيء، وسقطت يدي إلى جانبي وكأنها لم تتحرك على الإطلاق.

ضحكت الحمى، رغم أنني لم أسمع صوتها قط. كان صوتًا قادمًا من الداخل، من أعمق جزء مني، الجزء الذي توقفت منذ فترة طويلة عن الاستماع إليه. همست مرة أخرى: "لا بد أن يكون القلب هو القلب"، رغم أن الكلمات كانت هذه المرة أكثر نعومة، وتلاشى في الهواء قبل أن أتمكن من استيعابها تمامًا.

أصبحت الغرفة أكثر برودة، أو ربما كنت قد أصبت بالخدر. بدت الجدران، التي كانت قريبة جدًا ذات يوم، وكأنها تتراجع، وتبتعد عني وكأنها هي أيضًا سئمت من وجودي. كنت وحدي، أو ربما كنت وحدي دائمًا، وكانت الأشكال والحمى والصوت - كلها أوهامًا، خلقها عقل يائس لإيجاد معنى لعالم لم يعد له معنى.

ولكن الحمى ظلت باقية. فقد ظلت تلازمني، كحضور دائم في الخلفية، وكان صوتها أشبه بهمهمة خافتة كنت أشعر بها أكثر مما أستطيع سماعها. كانت صابرة، تنتظر مني أن أفهم، وأن أقبل ما كانت تخبرني به طوال الوقت.

وفعلت ذلك في النهاية.

القلب يجب أن يكون القلب.

كان الأمر بسيطًا حقًا. لم يكن هناك ما هو أكثر من ذلك. لا معنى أعمق، ولا حقيقة مخفية تنتظر الكشف عنها. لقد كانت مجرد حقيقة، حقيقة قديمة قدم الزمن نفسه. يجب أن يكون القلب هو القلب. لا أكثر ولا أقل.

ابتسمت الحمى مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت ابتسامة حزينة، ابتسامة مليئة بثقل أعمار لا حصر لها. لقد قامت بوظيفتها، لقد أخبرتني بما أحتاج إلى معرفته، والآن حان وقت رحيلها.

شاهدته وهو يتلاشى، ووجوده يتلاشى ببطء في الهواء، حتى لم يبق شيء سوى الصمت.

وفي هذا الصمت، فهمت.

كانت النظرة إلى ما وراء هذه الليلة مترددة، كأنفاس معلقة، بخيط غير مرئي يطنطن، وأليافها متشابكة في أصداء أصوات لم تتشكل قط.

أصبحت الأيدي الآن رياحًا جافة، وأطرافًا من زمن محيت بحفيف النجوم، ترتجف على حافة السماوات البعيدة.

لقد تصالحت الحمى مع الصمت، مثل لهب يحتضنه الرمل، طعمه مرير، ومع ذلك تحتضنه شفاه لا تعرف سوى لغة الصمت.

لقد همسوا، يجب أن يكون القلب هو القلب، ولكن من هو؟ أم أن السؤال كان هشًا للغاية بحيث لا يمكن طرحه؟

هرب الشيطان من الأوردة، بأجنحته الممزقة، لكنها لم تستسلم، وفي صراخه، انفتحت الأرض، ولم تكشف عن الهاوية، بل عن ذكرى لم توجد بعد.

في داخل الفم، صوت لم يولد حقًا أبدًا، همسة من الشمس القرمزية، منحوتة من الحجر والملح، تم غسلها بعيدًا بواسطة الأيدي التي لم تتعلم أبدًا الارتعاش.

أين تذهب الأيدي حين تجرد من غرضها؟ أين تنام الأصوات حين يلتهم الصمت الهواء؟

ترتدي النجوم أقنعة الضحك، كل منها عين لا ترمش، وتحت نظراتها تذوب الطرق في تموجات من الزمن الزجاجي، شقوق حيث كان الضوء ينحني ويتأرجح.

رأيت الشجرة تنمو من بؤبؤ عين طائر، وتمتد أغصانها إلى سماء لم تكن سماءً بل لوحة قماشية، مساحة واسعة من الخيوط التي لا نهاية لها.

وكانت الشجرة تغني بنغمات عالية لا يمكن سماعها، وكانت أغنيتها لغة محيرة حوّلت الرياح إلى ملح وشمس.

تباطأ نبض اللهب، ولم يكن إيقاعه من هذا العالم بل من حلم دُفن منذ زمن طويل، والرماد الذي أعقب ذلك كان الكلمات التي لم نتحدث بها أبدًا، والجمل غير المكتملة، المتدلية في الهواء مثل طائرة ورقية بلا خيط لتثبيتها.

المرآة ليس فيها انعكاس، فقط جزء من الوقت محصور في أنفاسها، وعندما لمستها ارتجفت وكأنها تنتظر شيئاً مجهولاً أيضاً.

في الصمت، انكشفت خريطة، لم تُرسم بالحبر بل بالصمت، وكانت الطرق تؤدي إلى اللا مكان وفي كل مكان، متقاطعة عبر حجرات القلب القديمة، حيث لا تزال أصداء الذكريات تنبض بالحمى.

لكن هذه الحمى، كما قالوا، كانت حمى كل القلوب المنسية.

دخلت ممرًا بلا جدران، وكان السقف عبارة عن فسيفساء من السماوات المتغيرة، حيث انهارت السحب لتتحول إلى كلمات وتفككت الكلمات لتتحول إلى رياح.

كانت كل خطوة تردد صدى صوت لم أسمعه من قبل، سيمفونية ملفوفة بحجب الفكر، وكانت الأرض تتأرجح تحت قدمي مثل جلد وحش نائم ينتظر لمسة لإيقاظه.

كان النهر، جافًا ولكنه متدفق، يجري تحت أجفان الليل، وكانت ضفافه تصطف عليها أحلام لا شكل لها ولا هيئة، فقط طعم الحقيقة المرة التي لا يمكن ابتلاعها بالكامل.

وضعت يدي على كفّي لألتقط التدفق، لكنهما كانتا فارغتين، ومع ذلك، كان النهر يغني، وكانت أغنيته تهويدة وعاصفة في الوقت نفسه.

ارتفعت الحمى مرة أخرى، لكنها لم تكن حمى الجسد، كانت نارًا في السماء، نبضًا قديمًا يعكس النجوم،

يتلاشى ولكنه شرس، وفي تلك النار، رأيت يدًا، ليست يدي، ليست يدي، ليست يدك، يد تمتد نحو الأفق غير المرئي، أصابع مصنوعة من الظلال، من الضوء، من الأصداء تدور في رياح منسية.

قالوا للقلب:

"اسكت، اسكت"، لكن القلب لا يعرف السكون. إنه ينبض ويشد، ويرقص بأوتار غير مرئية، وكل نبضة هي خطوة نحو حافة لا يمكنه عبورها أبدًا.

وفي الفراغات بين النبضات، هناك وجوه، وهناك أصوات، وهناك ذكريات لا تنتمي إلي، ومع ذلك فهي باقية، متمسكة بالصمت وكأنه مرساة وحيدة.

انقلب الليل بوجهه، ورأيت في الفراغ بين الأنفاس بابًا، لكن الباب لم يكن بابًا، كان لهبًا، يحترق بلا حرارة، نار لا تلتهم، تعكس فقط، تعكس ما لا يمكن رؤيته أبدًا.

لقد مددت يدي إليه، وفي أثناء ذلك ، وجدت أنني لم أتحرك أبدًا، وأن اللهب لم يكن في الخارج،

بل في الداخل، يتلألأ في الكهوف العميقة لنبضي، في الأوردة التي لا تزال ترتجف بذكرى هروب الشيطان.

انفتحت السماء، ولكن ليس بالضوء، وليس بالصوت، فقط بالسكون الذي هدر، والذي امتد عبر الأفق

مثل خيط يتكشف من بين أيدي ألف إله منسي.

وفي ذلك الصمت وجدت القلب، أو ربما وجدني، ينبض، ليس بإيقاع الدم، بل بإيقاع النجوم، بإيقاع الليل

ونبض اللهب المهجور.

هل كان القلب هو الذي تكلم؟ أم كان اللهب؟ أم كان الصمت هو الذي ملأ الفراغ بينهما؟

لا يزال صراخ الشيطان يتردد، لكنه لم يعد صراخًا.

إنه صدى طائر يحلق في سماء لم تكن موجودة قط، في زمن لم يأتِ أبدًا.


0 التعليقات: