الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، سبتمبر 07، 2024

"ضحكات تحت الخيام" نص مفتوح : عبده حقي


 يرتدي الشارع اسمك مثل عباءة رثة، منسوجة في الشقوق التي تتقاطع مع قماشها القديم. يتحدث الغبار بلغة لا يفهمها أحد، يرتفع من آثار أقدام الأطفال. بالكاد تلمس أقدامهم الأرض ولكنها لا تزال تترك علامات على الوقت، وتفكها مثل القماش القديم. سماء بلا سقف، والضحك يتساقط مثل الحجارة من أفواههم، شرسة في تحديها، حادة مثل الليل. خيام ليست خيامًا، أشبه بسراب مخيط من نسيج الانتظارات، تمتد عبر الأفق مثل خريطة لمكان لم يكن موجودًا أبدًا بعد الوجود.

الرياح ـ جامحة، غير مروضة ـ تكتسح الخيام، وتمر عبر الضحكات، وتمر عبر شقوق قارة تطن عظامها تحت السطح، صامتة في حزنها. إنها الضيوف غير المدعوين لتاريخ يرفض البقاء مدفوناً، وثقل ألف انتفاض لا يحمله على الأكتاف بل في الفراغات بين الأنفاس. كل نفس هي صرخة معركة، وكل تنهيدة هي موجة تصطدم بشواطئ تمردات منسية، فقدت أسماءها لكن أصدائها ما زالت تعض على حواف الصمت.

لا تشرق الشمس هنا، غريبة وفارغة. بل تتساقط بدلاً من ذلك، وتذوب من بحر السماء مثل الوعود المنسية، وتلقي بنظرها على الطرق الممتدة إلى ما هو أبعد من الريح، وتنحني مثل رجال عجائز متعبين يحملون النجوم على ظهورهم. وفي البعيد، تتكئ سماء ليست سماء على جبال ترتجف تحت وطأة أصوات بكماء.

وفي مكان ما من هذا المكان، تنمو شجرة من رماد الفجر الغابر. أوراقها الحادة الهامسة تقطر كلمات لا تصل إلى الأرض أبدًا. تدور في دوامات فوق رؤوس هؤلاء الأطفال، الذين تشق ضحكاتهم الصمت كما لو كانوا يحاولون تمزيق سماء جديدة، حيث تحترق النجوم بأكثر من مجرد الضوء. لكن النجوم هنا لا تحترق؛ إنها تومض مثل آخر نفس لشمعة أرملة في غرفة فارغة، تلقي بظلالها الملتوية والمتغيرة مثل الهمسات.

الأرض تحتنا مضطربة، تتحرك كوحش استعصى عليه النوم، وكأن الثورات الدفينة في أعماقها تستيقظ، وتمتد، وتتثاءب. الشوارع ترتجف وكأنها تحاول التخلص من ثقل الأسماء المطرزة على أكتافها. يسير الأطفال في هذه الشوارع بأقدام خفيفة كالأحلام، لكن خطواتهم ثقيلة بالمستقبل الذي يضطرون إلى حمله بأيدي أصغر من أن تتحمل مثل هذه الأعباء.

وفي مكان ما بعيدا .. بعيدا ، يضحك الزمن ـ ليس صوت التحرر العذب، بل صوت أكثر هشاشة، مثل صوت الأجنحة وهي تخترق نسيج الليل. وينضم إليه ضحك الأطفال، لا يلين، فيشق الصمت، ويرتجف الهواء تحت وطأة كل هذا. وينعكس الصوت على الحجارة، والخيام، والرياح التي لا تحمل سوى ذكرى الكلمات المعتقلة .. التي لم تُقال.

يضحك الأطفال بأسنان تلمع كالنجوم ، حادة كحواف النصل، وفي ضحكهم صوت ألف انتفاض، متشابك في أغنية لا يتذكرها أحد. يتساقط ضحكهم في الشوارع، ويتدفق عبر الشقوق، ويتسرب إلى الأرض، التي تبتلعه ثم تطلب المزيد والمزيد دائمًا.

الخيام، والرياح، والأرض ـ كل ذلك يشكل جزءاً من صمت .. صمت يراقب، ويستمع، وينتظر. إنه صمت يعرف ثقل الخطوات وصوت الأسماء التي تحملها الرياح. والصمت أيضاً تعلم أن يتحمل ثقل الغليان.

يرتفع ضحك الأطفال مرة أخرى، شرسًا لا يتراجع. يخدش السماء، محاولًا سحبها إلى أسفل، محاولًا نحت شيء جديد من غطائها. لكن السماء، مثل الأرض، تعبت - تعبت من احتواء النجوم التي احترقت منذ فترة طويلة، تعبت من التمدد فوق عالم لم يعد آمنا.

وهكذا يمشي الأطفال، وأقدامهم تثير الغبار الذي يحمل همسات. همسات ترسم الشوارع مثل عروق الورقة، تلتف حول الخيام مثل الدخان، تتجمع في الفراغات بين الأنفاس ثم تتلاشى مرة أخرى. همسات تتحدث عن ثورات لم تولد بعد، عن أسماء لم تنطق بعد. همسات تعرف اسمك وتحمله كبذرة تنتظر اليوم الذي سيزهر فيه في شقوق فجر جديد.

0 التعليقات: