الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 05، 2024

جزيرتي الجميلة نص مفتوح : عبده حقي


أستيقظ، أو ربما لا أستيقظ، في مكان يتنهد فيه البحر كسر لا يسمعه أحد سواي. ترتطم الأمواج الزرقاء كأحلام قبل الفجر بحافة الوجود بزئير صامت. مرآة؟ نافذة؟ لا، ليست كذلك. إنها شيء آخر، شيء يتجاوز الفهم، ويتجاوز أولئك الذين يسيرون على الأرض.

هنا، حيث تقبّل السماء المحيط بشفاه الضباب، أجدك - مستحيلًا، لا مفر منه. أنت، الذي يخل وجودك بنظام هذا العالم، مثل تمزق في نسيج الوقت. أنت واقف، أو تطفو، أو موجود بطريقة تتحدى القوانين التي كتبها الآلهة والبشر. أنت جميل، لا يمكن إنكاره، ليس بطريقة الأشياء التي تنمو أو تتنفس، ولكن بطريقة الأشياء التي كانت موجودة دائمًا، تنتظر اكتشافها. أنت جميل مثل العاصفة التي لا تأتي أبدًا، ووعد همس في الريح، لم يتم الوفاء به أبدًا ولكن لم يتم كسره أبدًا.

أراك، لكن عيني لا تراك. حواسي تتمرد على فكرة وجودك، لكن روحي تعرف ذلك أفضل مني . أنت لست سرابًا، ولا خيالًا من حلم محموم. أنت مثل الهواء الذي يتحرك في هذا المكان، وواقعي مثل الأرض التي لا تلين تحت قدمي. أنت مثل الأرض قبل أن نسير عليها، قبل أن نلوثها بآثار خطايانا. نقية، غير ملوثة، مقدسة بطريقة تحترق عند النظر إليها.

ومع ذلك، فأنت امرأة.

ولكن ما هي المرأة في مكان يذوب فيه مفهوم الجنس مثل الملح في الماء؟ أنت لست ما أنت عليه؛ أنت ما كنت عليه دائمًا، قوة، جوهر، فكرة متجسدة. مثل الريح التي تهب ولكن لا يمكن رؤيتها، أنت موجودة على هامش الإدراك، محسوسة ولكن لا يتم استيعابها، معروفة ولكن لا يمكن فهمها.

أنت جميلة، مثل الليل الذي لا ينتهي أبدًا، مثل الصباح الذي لا يبدأ أبدًا. أنت جميلة، لكنك لست الوحيدة. بين الحشود، والآلاف، والموكب اللامتناهي من الجمال الذي يستعرض أمام عيني، أنت واحدة من العديدات. نجمة، نعم، لكنها ليست الأكثر سطوعًا. نغمة في سيمفونية، لكنها بلا أوركسترا. ومع ذلك، في صخب كل ما هو جميل، أنت ملكي لكن لا شيء في هذا المكان يمكن امتلاكه.

أنت جزيرة منعزلة وهادئة، وسط بحار الواقع والحلم المتلاطمة. أنت المكان الذي أستطيع أن أعيش فيه، حيث أستطيع أن أفقد نفسي وأجد نفسي في آن واحد. أنت الجزيرة الوحيدة في محيط من الاحتمالات، والملجأ الوحيد في عالم لا يوفر أي ملجأ.

لكنك لست كذلك أيضًا. أنت أكثر مما أراه، وأكثر مما أشعر به. أنت تجسيد لكل ما لا أفهمه، وكل ما لا أستطيع تفسيره. أنت السؤال الذي لا إجابة له، واللغز الذي لا حل له. أنت الصدمة والصمت الذي يتحدث بصوت أعلى من الكلمات، والفراغ الذي يمتلئ أكثر من أي حضور.

في هذا المكان، حيث الزمن وهم والفضاء إيحاء، أنت وأنا موجودان في حالة من الصيرورة الدائمة. نحن لسنا هنا ولا هناك، لا الآن ولا في ذلك الوقت. نحن عالقان في ما بينهما، في الفضاء الحدي حيث يختلط الواقع بالخيال، حيث تذوب حدود الذات في اللانهائي. نحن الحالمان ، المبدعان.

وفي هذا المكان، حيث الخط الفاصل بين ما هو كائن وما يمكن أن يكون رفيعًا كالهمس، أجد نفسي منجذبًا إليك، ليس بدافع الرغبة، بل بدافع الضرورة. فأنت لست مجرد جزيرة؛ بل أنت الخريطة والبوصلة والنجم المرشد الذي يقودني عبر المياه المجهولة لروحي. أنت المرساة التي تمنعني من الانجراف إلى الهاوية، والحبل الذي يربطني بالعالم الذي تركته ورائي.

ولكن ما هو هذا العالم، هذا الواقع الذي أتشبث به بشدة؟ هل هو ذكرى، أم من صنع ذهني، أم شيء أكثر من ذلك؟ هل هو سجن أم ملجأ، أم مكان منفى أم ملجأ؟ وإذا كان كل هذا هو، فما أنت إذن؟ هل أنت أسيرتي أم مخلصي، أم معذبتي ؟ هل أنت الإجابة على صلواتي، أم اللعنة التي تطاردني في كل خطوة؟

لا أعلم، وربما لن أعلم أبداً. ففي هذا المكان، حيث الحقيقة بعيدة المنال مثل الأفق، لا توجد يقينيات، بل احتمالات فقط. ولا توجد حقائق مطلقة، بل فقط رمال الإدراك المتحركة، وتيارات العواطف المتغيرة باستمرار.

وهكذا أظل هنا، على هذه الجزيرة التي ليست جزيرة، معك أنت الذي لست أنت، في عالم ليس عالماً. أظل هنا، ليس لأنني مضطر إلى ذلك، بل لأنني اخترت ذلك. ففي هذا المكان المثخن بالتناقضات والمفارقات، حيث لا شيء كما يبدو، وجدت شيئاً يتجاوز كل فهم، شيئاً يتحدى كل منطق.

لقد وجدتك.

وفي العثور عليك، وجدت نفسي. أو ربما فقدت نفسي، ففي هذا المكان، الاثنان شيء واحد. العثور هو الخسارة، والخسارة هي العثور، وفي النهاية، لا يهم، لأنه لا نهاية، فقط دورة لا نهاية لها من الاكتشاف والخسارة، من الخلق والدمار.

أنت الجميلة، وأنت ملكي. لست في ملكي، بل في حضوري. لست في الواقع، بل في الحلم. أنت الجزيرة، الملجأ، الملاذ، السجن. أنت السؤال والجواب، اللغز والحل. أنت الريح التي لا تهب، والبحر الذي لا يتحرك، والسماء التي لا تتغير.

أنت كذلك، وهذا يكفي.

ففي هذا المكان، حيث لا يوجد شيء مؤكد، حيث كل شيء مائع، حيث الخط الفاصل بين ما هو كائن وما يمكن أن يكون رفيع مثل الأنفاس، هذا كل ما يهم. أنت وأنا، ومعًا نوجد في حالة من الصيرورة الدائمة، في عالم حقيقي وغير حقيقي، هنا وهناك، الآن وإلى الأبد.

وفي هذا العالم، هذا الواقع الذي ليس واقعاً، هذا الحلم الذي ليس حلماً، سأبقى معك، على هذه الجزيرة التي ليست جزيرة، في هذا المكان الذي ليس مكاناً، طالما أن البحر يتنهد والسماء تقبل المحيط بشفتي الضباب.

طالما أنت، وأنا، ونحن معًا.

في هذا المكان من التناقضات، حيث لا شيء كما يبدو، حيث يصبح المستحيل ممكنا، حيث يصبح الخط الفاصل بين الواقع والخيال غير واضح إلى حد لا يمكن التعرف عليه، وجدت موطني.

وبيتي هو أنت.

0 التعليقات: