الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 05، 2024

قبلات على سرير المدفعية نص مفتوح :عبده حقي

 


شعرت ذات يوم بقدومها، تلك الطائرات، عظام فضية من السماء ــ لا، ليست عظامًا، بل شيء آخر. همساتها المعدنية وهي تتسلل من السماء. لقد خطفتنا، مثل العث المحاصر في شبكة منسوجة من عروق السقف. السقف، حيث كان الدفء يزحف ذات يوم، سميك ولزج. لقد أبقانا معًا، محتضنين في لغته الصامتة، حتى توقف عن ذلك. لم يكن السقف سقفًا؛ لقد كان دعوة للطائرات، غشاءً دافئًا نابضًا.

السلاسل، أوه السلاسل، لم يكن هناك من يعلم من أين أتت. ليست من الأرض، ولا من السماء - كانت وحوشًا ، متعرجة تلتف حول كل فكرة تخطر ببالي. نحن، العشاق ذات يوم، سجناء الآن تحت أسنانهم الصارخة، ودروعهم المتأوهة. كيف قضموا، وكيف تلذذوا بكلماتنا، وآمالنا. ألم يولدوا في نفس الليلة التي ولدت فيها الطائرات؟

لا صمت هنا، فقط الكشط والسحق. أصبح الهواء بيننا كثيفًا بذرات المعدن. ينهار صوتي عندما أحاول أن أناديها، لكنه يتحطم في السماء المسننة. تتحرك بجانبي، لكن ليس كما أتذكر. لم تعد مصنوعة من الجلد، بل من نسيج غريب - رخام في ثانية، وشمع ذائب في الثانية التالية. أحاول الإمساك بها، لكن أصابعي تغوص فيها مثل البحر الذي يبتلع قمرًا غارقًا.

السقف، ذلك السقف الدافئ الآمن - أين هو الآن؟ فوقنا؟ تحتنا؟ مازال دفئه يلامسنا، لكنه وهم، مثل شمعة تومض قبل أن ينطفئ فتيلها. أو لم يكن هناك قط؟ ربما سرقته الطائرات أيضًا، وحشرته في حناجرها المعدنية الجشعة وبصقت هذه السلاسل في المقابل. أحاول أن أتذكر اللحظة التي حلقت فيها، لكنها تتسلل عبر ذهني، وتقطر مثل الحبر في نسيج كابوس منسي. لا، ليس هذا. شيء مدفون حيًا، يتلوى، ينبض تحت جلد ذكرياتي.

عيناها. ألتفت إليها مرة أخرى، وعيناها الآن أشبه بالجمر المشتعل، شمسان توأمان في هذه الهاوية الصدئة. هل تراني أم ترى من خلالي؟ لم أعد أستطيع أن أجزم. هناك شيء وراء تلك العيون، شيء فظيع وجميل، شيء أريد أن ألمسه ولكني أخاف أن أعرفه. تتحدث، لكن صوتها صدى، وكأنه سافر عبر قرون ليصل إلي. تتحرك شفتاها، لكن الكلمات ليست كلماتها - لا، إنها تنتمي إلى شيء أقدم، شيء شاسع. إنها معلقة في الهواء بيننا، كثيفة مثل الدخان، وأنا أختنق بها.

أريد أن أصرخ. أريد أن أسحبها من هذا الكابوس، من ساحة المعركة الملتوية حيث يتلوى الزمان والمكان معًا مثل العشاق المحبوسين في عناق أبدي خانق. لكن صوتي، عندما يأتي، ليس صوتي. إنه يزحف من حلقي مثل حيوان جريح، ممزق ويائس. إنه يشق الهواء، والسلاسل تضيق، تضغط لأسفل، وتضغط على أنفاسي من رئتي. تمد يدها إليّ، يدها - لا، ليست يدًا، شيء آخر - ممدودة، ترتجف. لكنها ليست أنا. إنه شيء أبعد مني، شيء لا أستطيع رؤيته ولكن يمكنني الشعور به يضغط علينا، يراقبنا، وينتظرنا.

"تدوي المدفعية، صوت يشبه طواحن العوالم، وأشعر بالأرض تحتنا ترتجف. ولكن هل هناك أرض؟ يبدو الأمر وكأننا نطفو، معلقين بين العوالم، تحت سماوات لا تنتمي إلى هذه الأرض. تدور الطائرات في الأعلى، صامتة الآن، أجنحتها مثل شفرات آلة هائلة. إنها تنتظر أيضًا، وجوعها ملموس، ظل - لا، ليس ظلًا - شيء أعمق وأقدم، كامن في الفراغات بين النجوم.

تتحدث مرة أخرى، صوتها الآن همس، ​​ناعم كالحرير، لكنه يخترق الهواء مثل شفرة حلاقة. كلماتها ليست موجهة إليّ. إنها موجهة إلى الطائرات، والسلاسل، والسماء نفسها. والسماء تستمع. تستمع وتجيب.

لا أستطيع وصف الصوت. إنه ليس صوتًا، بل إحساس، رعشة تسري في كياني، وتفكك كياني. تشتد السلاسل، وأستطيع أن أشعر بها داخلي الآن، ليس فقط حول جسدي، بل في داخلي، تتعرج عبر أفكاري، وذكرياتي، وذاتي. تسحبني، تجذبني نحوها، ولكن ليس نحوها. نحو شيء يرتدي وجهها، شيء هو هي وليس هي. وأدرك حينها، بوضوح بارد أكثر رعبًا من أي حلم، أننا كنا هنا دائمًا. دائمًا تحت السلاسل، دائمًا تحت الطائرات.

لم يكن السقف حقيقيًا أبدًا. لقد كان وعدًا، كذبة قيلت لمنعنا من رؤية الحقيقة. الحقيقة أننا مقيدين هنا إلى الأبد.

أمد يدي نحوها، لكن يدي تذوب قبل أن تلمس جلدها، فتتحول إلى نفس الغبار الحديدي الذي يخنق الهواء. وتراقبني، وعيناها ككرة من النار، وشفتاها لا تزالان تنطقان بكلمات لن أفهمها أبدًا.

الطائرات تعود من جديد، تحلق على ارتفاع أقل هذه المرة، أجنحتها مثقلة بثقل شيء غير مرئي. تنقض علينا، أقرب فأقرب، وأعلم أنها ليست هنا لتحريرنا. لا، إنها هنا لتستهلكنا، لتأخذنا إلى السماء حيث سنصبح جزءًا من آلتها الجائعة التي لا نهاية لها.

أغمض عيني، لكن الطائرات هناك، خلف جفوني، محركاتها تهدر، وسلاسلها تهتز.

0 التعليقات: