الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


الخميس، سبتمبر 05، 2024

أصوات تنزف من الصمت نص مفتوح : عبده حقي


أصداء أصوات لا حصر لها تضغط على حيطان ذهني، أصواتها تمتزج في صخب اليوم والأمس، فسيفساء من الضحك والحزن. إنهم يغنون، ويصرخون، ويهمسون - كل نغمة هي جزء من شيء ضائع، شيء إن كان قد وجد. أصوات كانت تنتمي ذات يوم إلى غرباء وعشاق، إلى الفراغ بين الليل والفجر. لكن هناك صوت واحد، مع ذلك، يلتصق بي مثل جلدي الثاني، صوت يرفض أن يُسكت، صوت ليس لي ولا لهم. إنه صوت طائر، صغير ومرتجف، أغنيته ترتعد في الهواء مثل نغمة احتفظ بها لفترة أطول مما ينبغي.

عندما أفتح فمي للغناء، ينساب صوت الطائر يرافق صوتي، ويشق طريقه عبر اللحن مثل شريط من الريح الباردة. أستطيع أن أشعر بحضوره، واقفًا على حافة روحي، وجسده الهش يهتز مع كل نغمة. اختفت الشوارع التي كان يحلق فوقها ذات يوم منذ فترة طويلة، وحلت محلها لوحات طبيعية وذكريات جديدة، لكنه لا يزال يغني. إنه يغني عن الأحزان المدفونة تحت طبقات الزمن، عن الحب الذي اختفى ومات، عن مدينة حيث كان الفرح مجرد اسم على لافتة متداعية.

أصوات الآخرين تشبه الأشباح، كلماتهم تجوب دروب وعيي بلا معنى، بلا وزن. إنهم يغنون ألحانًا قديمة، وأغانٍ كانت ذات يوم ذات قوة ولكنها الآن تبدو وكأنها أصداف فارغة، مجوفة من شدة التكرار. أحاول الاستماع، لأجد شيئًا في أغانيهم يتردد صداه، لكن كل ما أسمعه هو صوت الطائر. صوته يخترق الضوضاء مثل شظية ضوء، حاد وثاقب. إذا كان بإمكاني التحدث بلغة أغنيته، فسأخبرك بكل ما رأيته، وكل ما أعرفه، لكن الكلمات ستكون وفيرة جدًا وغير كافية.

أريد أن أنسى الأشياء التي يغني عنها، والذكريات التي يسحبها من أعماق عقلي. لكن الطائر لا يسمح لي بذلك. يرتجف صوته تحت وطأة تلك الذكريات، كما ترتجف ورقة في الريح قبل أن تسقط. يغني عن رجل غارق في حزنه، وآخر أنفاسه تغلي مثل الضحك قبل أن يبتلعها الماء. يغني عن الحب، الخام والحي، والحب الذي مات موتًا هادئًا، وجسده بارد وساكن تحت الأغطية.

يغني الطائر عن الخوف أيضًا. خوف يمسك بقلبي بأصابع جليدية، خوف يجعلني أرغب في الركض لكنه يسجنني في مكاني. يغني لعصفور، جسده الصغير جامد على الرصيف، عيناه واسعتان لا تريان شيئًا. الشارع هو الشارع الذي مشيت فيه ألف مرة، واسمه محفور في ذاكرتي مثل ندبة، لكنه الآن يبدو غريبًا، مثل مكان لم أذهب إليه أبدًا. صوت الطائر هو الشيء الوحيد الذي يظل ثابتًا، خيط صوتي يربطني بهذا العالم، حتى لو هددني بفك ارتباطي به.

صرخة عالقة في حلقي، لا أستطيع إطلاقها. إنها تجلس هناك، ثقيلة وحارقة، لكنني لا أستطيع إطلاقها. لا أريد أن أعترف بالألم الذي قد تجلبه، الألم الذي أصبح رفيقًا دائمًا. أسحقها، وأدفنها عميقًا، لكنني أعلم أنها ستجد طريقها إلى السطح في النهاية. هذا ما يحدث دائمًا. إن سوء الحظ ظل يتبعني، بغض النظر عن مدى سرعتي في الركض، وبغض النظر عن عدد المرات التي أحاول فيها التخلص منه. تهمس في أذني، تخبرني أننا مرتبطان ببعضنا ، وأننا ننتمي إلى بعضنا البعض، لكنني أرفض تصديقها. لا أستطيع تصديقها.

أحتفظ بدموعي السرية، سجينة حيث لا يستطيع أحد رؤيتها. إنها ملكي وحدي، ولن أشاركها مع العالم. لو كانت هناك طريقة للإشارة إلى حزني، وطريقة لتحذير الآخرين من الظلام الكامن في داخلي، لما تحركت القطارات أبدًا. ستتوقف إلى الأبد، في انتظار ألم لا ينتهي أبدًا.

رجال الجمارك اليائسين وراء البحار يستطيعون تفتيشي ما شاءوا، ويمكنهم البحث في حقائبي وتعرية ملابسي، ولكنهم لن يجدوا شيئاً. فأنا لا أحمل أي مواد محظورة، ولا أي مواد غير قانونية، بل أحمل فقط ثقل روحي وصوت الطائر الذي يغني بداخلها. إنهم يستطيعون استنطاقي، وفحصي، ولكن ليس لدي ما أقوله. إن حبيبي مسافر، دائم الحركة، يبحث دائماً عن شيء بعيد المنال. وفي يوم من الأيام، سوف أقابله مرة أخرى، وجهاً لوجه، وسوف أعرف ذلك على الفور. ولن يكون هناك أي تردد، ولا شك.

حتى ذلك الحين، سأغني مع الطائر، أصواتنا متشابكة في أغنية مألوفة وغريبة في الوقت نفسه، مريحة ومرعبة في الوقت نفسه. إنه يغني لي، معي، صوته يذكرني بأنني ما زلت على قيد الحياة، وأنني ما زلت هنا، حتى مع تحول العالم من حولي وتغيره. أغنيته هي مرآة تعكس لي كل ما أنا عليه وكل ما يمكن أن أكونه، ولا يسعني إلا أن أستمع، ولا يسعني إلا أن أتبع لحنه أينما يقودني. وهكذا، نغني، الطائر وأنا، أصواتنا تختلط في الهواء، ثنائي من الحزن والأمل، من الحياة والموت. وفي تلك الأغنية، أجد نوعًا غريبًا من السلام، نوعًا غريبًا من الجمال لم أتوقع أبدًا أن أجده.

0 التعليقات: