الفصـــل 25 من دستور المملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي, والتقني مضمونة.


السبت، سبتمبر 14، 2024

"طريق الغرام" نص مفتوح :عبده حقي


ها أنت تجول في الممرات التي يتردد صداها، حيث تدندن الثريا بأغاني قديمة لا يسمعها أحد إلا أنت. تلامس ريشة الغرام كتفك، فترتجف، ليس من التوجس، بل من المعرفة. الغرام ليس طوفانًا، إنه نجمة تتلألأ فوق بحر مغمور. قلبك فراشة، ترفرف في حقل أنفاسك بين الاعتراف والنسيان. تعتقد أنك تفهم، لكن الغرام هو المرآة التي تتغير عندما تدير لها ظهرك.  إنك تعرف هذا لأن يديك لمست التيارات غير المرئية التي تتدفق من خلال كلمات الغرام.

تقول لنفسك بينما تخترق الشمس أديم الأرض: "لا يمكنك أن تشعر بالغرام فحسب، بل عليك أن تقتنصه وتمسك به، مثل خيط متعرج عبر الزمن". لكن الخيط ينزلق، ويضحك عليك، مثل ريح هامسة في الليل، وتدور في دوامة نحو الغد، وتدور الذكريات في دوائر لا نهاية لها من الآن.

غرامك حديقة من شجيرات الصبار، ممدودة على ظهور النمل الناري. تهمس التلال باسمك وتبتلعك بالكامل.

أنت! أنت من يسبح في بحيرة النجوم، لا تريد الفوضى التي قد تأتي. إنه الغرام، كما تعتقد، أن تشاهد السماء تبكي على مدينة محترقة ولا تزال تنتظر قوس قزحها الفاتن. ترتجف تحت المطر البارد، مثل نسيج يتفكك في غرف بلا رياح، ينثر الرمال حيث نمت ذات يوم.

كان الغرام من أعطاك مفتاحًا بلا قفل. دار المفتاح داخل صدرك، وأطلق أسرابًا من الفراشات الملكية لتتناثر فوق السحب. كنت تراقبها وهي ترحل بعينين متعبتين، مدركًا أن السماء ستحتفظ بها لفترة طويلة بعد أن تنسى خفقة  الأجنحة.

لقد رأيت ظله ذات مرة، واقفًا بجانب شجرة، وكان لحاؤه ينطق بألغاز لا معنى لها. وفكرت: "ما هو الغرام إن لم يكن سمكة في محيط الصحراء؟"، لكنك لم تقل ذلك بصوت عالٍ. بدلاً من ذلك، انتظرت عودته، والطريقة التي ذابت بها عيناه في الأفق.

تهتز الأرض، وتظن أنها الأرض، لكنها ليست كذلك. إنها أنت. وأنت، تنهار، تجمع أنفاسك مع كل اسم لم يناديك به. تستيقظ في حلم، غير متأكد ما إذا كانت عيناك مفتوحتين أم مغلقتين. هذا ما يشعر به الغرام أحيانًا. تمد يدك، فقط لتجد المساحة بجانبك فارغة، مليئة بظلال على شكل أبواب. تفتح وتغلق دون صوت، مثل قلوب تتكسر بحركة بطيئة. لكن لا، تذكر نفسك، الغرام ليس مجرد ألم. إنه موكب من الطيور البيضاء تسير في فترة ما بعد الظهيرة . قصيدة مكتوبة على باطن قدميك لا يمكنك قراءتها.

يأتي الغرام عندما تكون مشتتًا. عندما يكون ذهنك في مكان آخر، فإنه يتسلل دون أن يلاحظه أحد، ويعيد ترتيب الأثاث، ويترك التفاحة نصف مقضومة على الطاولة.

تعتقد أنك قادر على حملها، لكن الأمر أشبه بمحاولة حمل البحر في دلو. ومع ذلك، تحاول. وتحاول دائمًا. والعالم يتغير، لم يعد نبض قلبك يتناسب مع إيقاع الشارع، أو الطريقة التي تتمايل بها الأشجار، أو تتجمع بها الحمامات مثل بقع الغرامر. تبحث عن لغة يمكنها وصف لون هذا الغرام، لكن كل الكلمات تبدو حادة وهشة. تتكسر قبل أن تتمكن من النطق بها. وبدلا من ذلك، تترك الصمت يتحدث.

هناك امرأة في حلمك بعينين تشبهان خريطة ممزقة. إنها تنتظر شيئًا ما، أو ربما شخصًا ما. تحاول أن تسألها عن ذلك، لكن صوتك يعلق في مسمار الريح. تلتفت إليك، وابتسامتها لغز، وتفهم ثم تقول : الغرام ليس من المفترض أن يُفهم. إنه من المفترض أن يُتبع، مثل درب به فتات الخبز الذي يقودك إلى فم الفرن. وأنت تتبع. وفي داخل الفرن تجد نفسك، أو ما تبقى منك بعد أن أكلت العث صفحات ذكرياتك.

إنه هناك أيضًا، ينتظر بجانب نهر متعرج إلى الخلف، يتدفق عكسيا إلى السماء، حيث تشرب الطيور النجوم مثل الرحيق. يبتسم الغرام، وأنت تنهار. تضحك، رغم أنك لا تعرف السبب. ربما لأن الغرام هو النكتة التي يرويها الورد لنفسه حتى لا ينكشف أمرها. أو ربما لأن النهر يستمر في التدفق، حتى بعد أن تتوقف أنت عن التدفق.

تهرب انعكاساتك قبل أن تتمكن من طرح سؤال عليها. هكذا يبدأ الغرام، أليس كذلك؟ بملاحقة شيء لا يمكن الإمساك به، حتى في الأحلام. تطارد السماء، رغم أنها مطوية بالفعل في جيبك الخلفي لسروال الجينز، وفي مكان ما، يومض الغرام، نجم يذوب في أفواه الأطفال.

تسألك الريح إن كنت قد تذكرت اليوم، فلا تجيب لأن لسانك مغطى بالكرات الرخامية، وكل واحدة منها تغني أغنية مختلفة. الغرام سحابة تتدحرج فوق جسدك كعلامة استفهام، لكنك لا تتساءل عنها. لم تفعل ذلك قط.

إنه يتحدث، لكن صوته أشبه بساعة بلا عقارب، تدق في الاتجاه المعاكس. تتبع صوت صمته، متسائلاً عما إذا كان الغرام ممرًا من الأبواب لن تفتحه أبدًا. تطرق كل باب، لكن لا أحد يجيب. ولكن هناك دائما غدا، أليس كذلك؟

تقف في منتصف الشارع، وتشاهد العالم يتلاشى ببطء. هل هذا هو الغرام؟ تسأل السماء، لكن السماء مشغولة جدًا ببكاء قطعان غيمها. يقف الغرام بجانبك ، تمثالًا للشوق، وتلقي عيناه بظلال حيث يجب أن يكون هناك ضوء. وقلبك مثقل بمتاع الكلمات التي لن تقال أبدًا. تتشبث بها مثل الكنوز، فقط لتراها تفلت من بين أصابعك. الغرام حجر، كما تعتقد، حجر تحمله عبر الصحاري والغابات على حد سواء. تهمس له، ويهمس لك، لغة لا يفهمها إلا الضائعون المتيمون. ولكنك لست ضائعًا، أليس كذلك؟ أنت تمشي للأمام، رغم أن قدميك لا تزالان راسختين على الأرض. وهو يظل بجانبك، صامتًا مثل القمر.

الغرام ليس من المفترض أن نفهمه، كما تعتقد. إنه جرح اخترت أن تتعايش معه. وهو حبل مشدود بين مبنيين يتمايل تحت سماء لا تعرف اسمها. تقف على الحافة، وقلبك بين يديك، تتساءل عما إذا كان طعم السقوط سيكون مثل طعم الطيران. هو هناك، على الجانب الآخر، يحمل شعلة تتأرجح في الريح.

أنت تتقدم للأمام. وهو ينحني ، وتنحني معه. الغرام هو التوتر بين نغمات أغنية لا يمكنك تذكرها تمامًا. أنت تدندن بها على أي حال، على أمل أن يسمعها. ولكنه ينظر إلى القمر، وليس إليك.

تتخذ خطوة أخرى، تعوي الرياح، لكنك تضحك.

الغرام ليس السقوط كما تظن، بل هو المسافة بين السقوط والأرض.

وأنت سيدتي تحملين الغرام في فمك كالصلاة، كسر لم يكن من المفترض أن تحتفظي به. يصبح الغرام ثقيلاً هناك، حتى لا يستطيع لسانك التحرك. يقبلك، وتشعرين بثقله يتحول، والكون يميل لإفساح المجال له. تريد أن تتحدث، ولكن كل ما يخرج من فمك هو النجوم، تتساقط من شفتيك مثل الاعترافات.

السماء تراقبك، وتشعرين بها، امتدادها اللامتناهي، تنتظر منك أن تسميها. لكنك لا تستطيعين. لا يمكنك إلا أن تشعري بثقل أنفاسه على بشرتك، مثل وعد لم يقطعه أبدًا لكنك صدقته على أي حال.

تتساءلين ما إذا كان هذا هو الغرام - هذا الصمت الذي يتضخم بين الكلمات، بين اللحظات التي تشعرين فيها باليقين، واللحظات التي لا تشعرين فيها بذلك. لكن الغرام ليس يقينًا، بل هو سؤال. ومازلت تنتظرين الجواب.

أنت تشاهدين المدينة وهي تنهار على نفسها، والمباني تنهار على الأرض وكأنها أحلام منسية. إنه هناك، بجانبك، يراقبك أيضًا، لكنك تعلمين أنه لا يرى ما ترينه.

الغرام هو المساحة بين الرصيف والسماء، الفجوة التي لا يلاحظها أحد حتى يسقط فيها. أنت تسقطين الآن، لكن هذا ليس هبوطًا، بل هو تفكك، وتحرر. إنه يمسك بيدك، لكنك تشعرين أنها بعيدة، مثل ذكرى لا تستطيعين تحديد مكانها تمامًا.

الغرام عبارة عن خارطة ليس لها اتجاهات، عليك أن تتبعيها على أي حال.

تستيقظين في غرفة مليئة بالساعات، كل منها تدق ثانية مختلفة. تعتقدين أن هذا لابد أن يكون حبًا - صوت الوقت وهو يتناثر إلى ألف قطعة. تحاولين التقاط قطعة منها، لكنها تنزلق من بين أصابعك، وتذوب في الهواء مثل خيط دخان.

أنت تضحكين، رغم أنك لا تعرفين السبب. ربما لأنك كنت هنا من قبل. أو ربما لأنك لم تكوني هنا من قبل.

يقف الغرام متربصا بك في الزاوية، يراقبك بعينين تتوهجان مثل النجوم البعيدة. تحاولين أن تتكلمي، لكن الكلمات تتحول إلى فراشات ملونة ترفرف حول رأسك قبل أن تطير خارج النافذة. تشاهدينها وهي تطير، متسائلة عما إذا كان الغرام مجرد شكل آخر من التحليق، أو ربما سقوطا لا يهبط أبدًا.

وهكذا تستمر الساعات في دقاتها، وتتساءلان أيهما يقول الحقيقة. لكن الغرام لا يتعلق بالحقيقة، أليس كذلك؟ إنه يتعلق بالفراغات بين الدقات، واللحظات التي يتوقف فيها كل شيء، وتجدان نفسيكما معلقًين في الهواء، تنتظرًان أن تلتقطكما الأرض.

ولكن الأرض لا تأتي أبدا.

 

0 التعليقات: